قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } . هذا على وجه التعجب ، ومعناه جحد ، أي لا يكون لهم عند الله ولا عند رسوله ، وهم يغدرون وينقضون العهد ، ثم استثنى فقال جل وعلا .
قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } . قال ابن عباس : هم قريش ، وقال قتادة : هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية . قوله تعالى : { فما استقاموا لكم } . أي على العهد .
قوله تعالى : { فاستقيموا لهم } . فلم يستقيموا ونقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم ، إما أن يسلموا وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا ، فأسلموا قبل الأربعة الأشهر ، قال السدي ، والكلبي ، و ابن إسحاق : هم من قبائل بكر بنو خزيمة ، وبنو مدلج ، وبنو ضمرة ، وبنو الديل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ، ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر ، فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم : بنو ضمرة ، وهذا القول أقرب إلى الصواب ، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد ، وبعد فتح مكة ، فكيف يقول لشيء قد مضى { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ؟ وإنما هم الذين قال عز وجل : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا } كما نقصتكم قريش . { ولم يظاهروا عليكم أحدا } كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان الاسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين ، والحِكَم التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال - تعالى - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ . . . لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } .
وقوله - سبحانه - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الاستفهام فيه للانكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد . وهو إنكار للوقوع لا للواقع . أى ؛ تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل .
والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم ، لأن البراءة إنما هي في شأنهم والعهد : ما يتفق شخصان او طائفتان من الناس على التزامه بينهما ، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا ، لاشتقاقه من الوثاق - بفتح الواو - وهو الحبل أو القيد . وإن أكداه بالميمين خاصة سمى يمينا .
ومسى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده .
والمعنى : لا ينبغى ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية ، ولا لرسوله بالطاعة ، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة . وعادتهم الغدر ، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله .
قالوا : وفى توجيه الإِنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته ، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده ، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهانى . وتكرير كلمة { عِندَ } للايذان بعدم الاعتداء بعهودهم عند كل من الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على حدة .
و { يَكُونُ } من الكون التام و { كَيْفَ } محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف . أو من الكون الناقص فيكون قوله { عَهْدٌ } اسمها ، وقوله { كَيْفَ } خبرها وهو واجب التقديم ، لأن الاستفهام له صدر الكلام .
وقوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ . . } استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله .
والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا : أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله - تعالى - قبل ذلك { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } وهم - كما رجحه ابن جرير والخازن - بنو خزيمه وبنو مدلج وبنو مضرة من قبائل بنى بكر ، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين .
وأيد ذكر استثنائهم هنا ، لتأكيد هذا الحكم وتقريره .
والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم ، فيكون الكلام على حذف مضاف .
والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام ، لزيادة بيان اصحابها ، وللإِشعار بسبب وجوب الوفاء بها .
والمعنى : لا ينبغى ولا يصح أن يكون للشمركين عهد عند الله وعند رسوله ، لكن الذين عاهدتموهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } .
أى : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، فتكون { مَا } مصدرية منصوبة المحل على الظرفية .
ويصح أن تكون شرطية وعائدة محذوف فيكون المعنى : فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم ، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ، ويحبهم بسبب تمسكهم بها .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية : ان العهد المعتد به في شريعة الإِسلام ، هو عهد الأوفياء غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته ، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده .
( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ? فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين . كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ، وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) .
لما انتهى في مجموعة الآيات السابقة إلى تقرير الأحكام النهائية الأخيرة بين المجتمع المسلم والباقين من المشركين في الجزيرة ، وهي تعني إنهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعا . . بعضهم بعد مهلة أربعة أشهر ، وبعضهم بعد انتهاء مدتهم . . حيث يؤول الأمر بعد هذه الأحكام إلى حالتين اثنتين : توبة وإقامة للصلاة وإيتاء للزكاة - أي دخول في الإسلام وأداء لفرائضه - أو قتال وحصار وأسر وإرصاد . .
لما انتهى إلى الأمر بإنهاء حالة التعاقد على ذلك الوجه أخذ في هذه المجموعة الجديدة من الآيات يقرر - عن طريق الاستفهام الاستنكاري - أنه لا ينبغي ولا يجوز وليس من المستساغ أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . وهو استنكار للمبدأ في ذاته ؛ واستبعاد له من أساسه ! بقوله تعالى : ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) .
ولما كان هذا الاستنكار في هذه المجموعة التالية في السياق للمجموعة الأولى ، قد يفهم منه نسخ ما كان قد تقرر في المجموعة الأولى من إمهال ذوي العهود الموفين بعهودهم الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا إلى مدتهم . . فقد عاد يقرر هذا الحكم مرة أخرى بقوله : ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين ) وجاءت في هذا التوكيد الجديد زيادة بيان . . إذ كان الأمر الأول مطلقا بالوفاء بعهود من استقاموا على عهودهم إلى مدتهم . . فجاء هذا التوكيد يقيد هذا الإطلاق بأن هذا الوفاء مرهون باستقامتهم في المستقبل إلى نهاية المدة كذلك كما استقاموا في الماضي . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص في هذه العلاقات والمعاملات ، وعدم الاكتفاء بالمفهومات الضمنية ، وإتباعها بالمنطوقات القطعية .
ونظرا لما أسلفنا بيانه في مقدمات السورة ومقدمات هذا المقطع منها ، من الظواهر والأعراض والاعتبارات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومئذ تجاه هذه الخطوة الحاسمة الخطيرة ، فقد أخذ السياق يثير في نفوس المسلمين ما يدفع عنهم التردد والتحرج والتهيب ، بإطلاعهم على حقيقة حال المشركين ومشاعرهم ونواياهم تجاه المسلين ، وأنهم لا يرعون فيهم عهدا ، ولا يتحرجون فيهم من شيء ولا يتذممون ، وأنهم لا يفون بعهد ، ولا يرتبطون بوعد ؛ وأنهم لا يكفون عن الاعتداء متى قدروا عليه . وأن لا سبيل لمهادنتهم أو ائتمانهم ما لم يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون .
( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ? ) . .
إن المشركين لا يدينون لله بالعبودية خالصة ، وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله . فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله ? إنهم لا يواجهون بالإنكار والجحود عبدا مثلهم ، ولا منهجا من مناهج العبيد من أمثالهم . إنما هم يواجهون بالجحود خالقهم ورازقهم ؛ وهم يحادون الله ورسوله بهذا الجحود ابتداء . . فكيف يجوز أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله ?
هذه هي القضية التي يثيرها هذا السؤال الاستنكارى . . وهي قضية تنصب على مبدأ التعاهد ذاته ؛ لا على حالة معينة من حالاته . .
وقد يستشكل على هذا بأنه كانت للمشركين عهود فعلا ؛ وبعض هذه العهود أمر الله بالوفاء بها . وأنه قد وقعت عهود سابقة منذ قيام الدولة المسلمة في المدينة . عهود مع اليهود وعهود مع المشركين . وأنه وقع عهد الحديبية في السنة السادسة للهجرة . وأن النصوص القرآنية في سور سابقة كانت تجيز هذه العهود ؛ وإن كانت تجيز نبذها عند خوف الخيانة . . فإذا كان مبدأ التعاهد مع المشركين هو الذي يرد عليه الإنكار هنا ، فكيف إذن أبيحت تلك العهود وقامت حتى نزل هذا الاستنكار الأخير لمبدأ التعاهد ? !
وهذا الاستشكال لا معنى له في ظل الفهم الصحيح لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي الذي أسلفنا الحديث عنه في مطالع هذه السورة وفي مطالع سورة الأنفال قبلها . . لقد كانت تلك المعاهدات مواجهة للواقع في حينه بوسائل مكافئة له ؛ أما الحكم النهائي فهو أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . . كانت أحكاما مرحلية في طريق الحركة الإسلامية التي تستهدف ابتداء ألا يكون في الأرض شرك بالله ؛ وأن تكون الدينونة لله وحده . . ولقد أعلن الإسلام هدفه هذا منذ أول يوم ولم يخدع عنه أحدا . فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه ؛ وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات . وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل . فإنه لا يغفل لحظة عن هدفهالنهائي الأخير ؛ كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوتة من جانبهم هم أنفسهم . وأنهم لابد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم ؛ وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه ؛ ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته . . ولقد قال الله للمسلمين منذ أول الأمر :
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) . . وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة ! وقولة الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة !
ومع استنكار الأصل ، فقد أذن الله - سبحانه - بإتمام عهود ذوي العهود . الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا إلى مدتها ، مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد - في هذه المدة - من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها :
( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين ) . .
وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى : ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين ) . . كما فهم بعض المفسرين المحدثين . . فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها ، لاستثنائها من هذا العموم . وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول . . وذكرت التقوى وحب الله للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد . كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول . ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي ، وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص - كما أسلفنا - لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد ، كما هو ظاهر ومتعين .
يبين تعالى{[13268]} حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون{[13269]} به وبرسوله ، { إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني يوم الحديبية ، كما قال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } الآية [ الفتح : 25 ] ، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } أي : مهما{[13270]} تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين { فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست ، إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء : منهم صفوان بن أمية ، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام ، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : أنى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله ، وبأيّ معنى يكون للمشركين بربهم عهد وذمة عند الله وعند رسوله ، يوفي لهم به ، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد وإنما معناه : لا عهد لهم ، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم ، فإن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم والاستقامة لهم عليه ، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله : إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسّجِدِ الحَرَامِ فقال بعضهم : هم قوم من جذيمة بن الديل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ هم بنو جذيمة بن الديل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، قوله : إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال : هم جذيمة بكر من كنانة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ الذين كانوا وأنتم على العهد العام بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم ولا في الشهر الحرام ، عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدتم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلم يكن نقضَها إلا هذا الحيّ من قريش وبنو الديل من بكر ، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ . . . الآية .
وقال آخرون : هم قريش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ هم قريش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني : أهل مكة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يقول : هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة ، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلم الجزية . فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يعني : أهل العهد من المشركين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال : هؤلاء قريش . وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم ، وغدروا بهم فلم يستقيموا ، كما قال الله فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم : إما أن يسلموا ، وإما أن يلحقوا بأيّ بلاد شاءوا قال : فأسلموا قبل الأربعة الأشهر ، وقبل قَتْلٍ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال : هم قوم جذيمة . قال : فلم يستقيموا ، نقضوا عهدهم أي أعانوا بني بكر حلف قريش على خزاعة حلف النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : هم قوم من خزاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : أهل العهد من خزاعة .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال : هم بعض بني بكر من كنانة ، ممن كان أقام على عهده ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش حين نقضوه بمعونتهم حلفاءهم من بني الديل على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة .
وإنما قلت هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام ، ما استقاموا على عهدهم . وقد بينا أن هذه الاَيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده ، لأن من كان منهم من ساكني مكة كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الاَيات .
وأما قوله : إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ فإن معناه : إن الله يحبّ من اتقى وراقبه في أداء فرائضه ، والوفاء بعهده لمن عاهده ، واجتناب معاصيه ، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده .
وقوله تعالى { كيف يكون للمشركين عهد عند الله } .
الآية لفظ استفهام وهو على جهة التعجب والاستبعاد ، أي على أي وجه يكون للمشركين عهد وهم قد نقضوا وجاهروا بالتعدي ثم استثنى من عموم المشركين القوم الذين عوهدوا عند المسجد الحرام أي في ناحيته وجهته ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : المعني بهذا قريش ، وقال السدي : المعني بنو جذيمة بن الديل . وقال ابن إسحاق : هي قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض ، وقال قوم : المعني خزاعة قاله مجاهد وهو مردود بإسلام خزاعة عام الفتح ، وقال بعض من قال إنهم قريش إن هذه الآية نزلت فلم يستقيموا بل نقضوا فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك ، وحكى الطبري هذا القول عن ابن زيد وهو ضعيف متناقض ، لأن قريشاً وقت الأذان بالأربعة الأشهر لم يكن منهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة وكذلك خزاعة ، قاله الطبري وغيره ، وقوله { إن الله يحب المتقين } يريد به الموفين بالعهد من المؤمنين ، فلذلك جاء بلفظ معرف للوفاء بالعهد متضمن للايمان .