البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَيۡفَ يَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِينَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ} (7)

{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد .

قال التبريزي والكرماني : معناه النفي ، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد .

ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك .

وقال القرطبي : وفي الآية إضمار ، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث ؟ انتهى .

والاستفهام يراد به النفي كثيراً ، ومنه قول الشاعر :

فها ذي سيوف يا هدى بن مالك *** كثير ولكن ليس بالسيف ضارب

أي ليس بالسيف ضارب .

ولما كان الاستفهام معناه النفي ، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل .

وقيل : منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام .

قال الحوفي : ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين ، لأن معنى ما تقدم النفي ، أي : ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا .

قال ابن عباس : هم قريش .

وقال السدي : بنو جذيمة بن الديل .

وقال ابن إسحاق : قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش .

وقال الزمخشري : كبني كنانة وبني ضمرة .

وقال قوم منهم مجاهد : هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح .

وقال ابن زيد : هم قريش نزلت فلم يستقيموا ، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك .

وضعف هذا القول بأنّ قريشاً بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، وكذلك خزاعة قاله الطبري .

فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء .

وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف ، لقوله : كيف كان عاقبة مكرهم ، وأن يكون الخبر للمشركين .

وعند على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو للحال ، أو هي وصف للعهد .

وأن يكون الخبر عند الله ، وللمشركين تبيين ، أو تعلق بيكون ، وكيف حال من العهد انتهى .

والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية ، أي : استقيموا لهم مدة استقامتهم ، وليست شرطية .

وقال أبو البقاء : هي شرطية كقوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } انتهى .

فكان التقدير : ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم .

وقال الحوفي : ما شرط في موضع رفع بالابتداء ، والخبر استقاموا ، ولكم متعلق باستقاموا ، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى .

فكان التقدير فأي : وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم .

وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا ، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء .

وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم ، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه .

وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل ، وتأولنا ما استشهد به .

فعلى قوله تكون زمانية شرطية : أنّ الله يحب المتقين ، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين ، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين ، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد .