اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَيۡفَ يَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِينَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ} (7)

{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الآية .

في خبر " يكون " ثلاثةُ أوجهٍ :

أظهرها : أنَّهُ " كيف " ، و " عَهْدٌ " اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم ، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام ، وهو الاستفهامُ ، بمعنى الاستنكار ، كقولك : كيف يُسْتفتَى مثلك ؟ أي : لا ينبغي أن يستفتى .

و " للمشركين " على هذا يتعلق إمَّا ب " يكُونُ " ، عند من يجيزُ في " كانَ " أن تعمل في الظَّرف وشبهه ، وإمَّا بمحذوفٍ ، على أنَّها صفةٌ ل " عَهْدٌ " ، في الأصلِ ، فلمَّا قُدِّمتْ نصبت حالاً ، و " عِند " يجوز أن تكون متعلقةً ب " يكون " أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل " عَهْدٌ " أو متعلقة بنفس " عَهْدٌ " لأنه مصدرٌ .

والثاني : أن يكون الخبرُ " للمشركين " ، و " عند " على هذا فيها الأوجه المتقدمة ، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به " للمُشركين " .

والثالث : أن يكون الخبرُ " عِندَ اللهِ " ، و " للمُشركينَ " على هذا إمَّا تبيين ، وإمَّا متعلقٌ ب " يكون " عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من " عَهْدٌ " . وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر ، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ ، " كَيْفَ " على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ ، أو بالحال ، كما تقدَّم تحقيقه في : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] .

ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً ، بمعنى : كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب " إلاَّ " ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله :

فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ *** كثيرٌ ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ{[17583]}

أي : ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ ، وفي الآية محذوفٌ تقديره : كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد .

قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } في الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنَّهُ منقطعٌ ، أي : لكن الذين عاهدتم ، فإنَّ حكمهم كيت وكيت .

والثاني : أنَّهُ متَّصلٌ ، وفيه حينئذٍ احتمالان :

أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ .

والثاني : أنه مجرورٌ على البدل منهم ؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ ، أي : ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا ، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ من قوله " فَمَا استقاموا " خبره .

فصل

معنى الآية : أي : لا يكون لهم عهد عند الله ، ولا عند رسوله وهم يغدرون ، وينقضون العهد ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } .

قال ابنُ عباسٍ : " هُمْ قُريْش " {[17584]} .

وقال قتادة " هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبيةِ " {[17585]} .

قال تعالى : { فَمَا استقاموا لَكُمْ } أي : على العهد { فاستقيموا لَهُمْ } [ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ] ونقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم ، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا ، فأسلموا قبل الأربعة أشهر .

وقال السدي والكلبي وابن إسحاق : إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ ، وبنو مدلج من ضمرة ، وبنو الديل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش ، وبنو الديل من بكرٍ ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة ، وهذا القول أقرب إلى الصواب ؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة ؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى : { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } .

وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 4 ] كما نقصكم قريش ، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة ، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم{[17586]} .

قوله " فَمَا استقاموا " يجوزُ في " ما " أن تكون مصدرية ظرفيةً ، وهي محلِّ نصب على ذلك أي : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، ويجوزُ أن تكون شرطيةً ، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان :

أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني ، والتقدير : أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .

والثاني : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، وفي الخبر الأقوال المشهورة ، و " فاستقيمُوا لهُم " جواب الشرط ، وقد نحا إليه الحوفيُّ ، ويحتاجُ إلى حذف عائد ، أي : أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في " ما " المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة ، وأنشد على ذلك : [ الطويل ]

فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ *** فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا{[17587]}

ولا دليل فيه ، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ .

قال أبُو البقاءِ{[17588]} : " ولا يجوز أن تكون نافيةً ، لفساد المعنى ، إذ يصير المعنى استقيموا لهم ؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم " . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } أي : من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده .


[17583]:تقدم.
[17584]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/323) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/386) وعزاه إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وذكره السيوطي (3/386) عن ابن زيد وعزاه لابن حاتم.
[17585]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/324) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/386) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[17586]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/270).
[17587]:البيت لعبد الله بن الزبير الأسدي ينظر: الأشموني 4/12 الدر المصون 3/446.
[17588]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/12.