قوله تعالى : { إني أريد أن تبوء } ترجع ، وقيل : تحتمل .
قوله تعالى : { بإثمي وإثمك } ، أي : بإثم قتلي إلى إثمك ، أي إثم مصاعيك التي علمت من قبل ، هذا قول أكثر المفسرين . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني ، وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً ، وقيل معناه : أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك . فإن قيل : كيف قال : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز ؟ قيل : ذلك ليس بحقيقة إرادة ، ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ، وطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب ، فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً ، وإن لم يكن مريداً حقيقة ، وقيل معناه : إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي ، فتكون إرادة صحيحة لأنها موافقة لحكم الله عز وجل ، فلا يكون هذا إرادة للقتل ، بل لموجب القتل من الإثم و العقاب .
ثم انتقل هابيل من وعظ أخيه بتطهير قلبه وبتذكيره بما تقتضيه الأخوة من بر وتسامح إلى تخويفه من عقاب الآخرة فقال : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } .
وقوله : { أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي ترجع . وتقر : من البوء وهو الرجوع واللزوم ، يقال : باء إليه : أي : رجع ، وبؤت به إليه أي رجعت .
والآية الكريمة تعليل آخر لامتناعه عن بسط يده إلى أخيه ، ولم تعطف على ما قبلها للإِيذان باستقلالها في العلية ، ولدفع توهم أن تكون جزء علة لا علة تامة .
والمعنى { إني أُرِيدُ } بامتناعي عن التعرض لك ببسط يدي { أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .
أي : ترجع إلى بإثم قتلك إياي ، وبإثمك الذي قد كان منك قبل قتلي ، والذي بسببه لم يتقبل قربانك { فَتَكُونَ } بسبب الإِثمين { مِنْ أَصْحَابِ النار } في الآخرة { وَذَلِكَ } أي : كينونتك من أصحاب النار { جَزَآءُ الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم .
قال الإِمام الرازي : فإن قيل : كما لا يجوز للإِنسان أن يريد نفسه أن يعصي الله ، فكذلك لا يجوز له أن يريد من غيره أن يعصي الله ، فلم قال : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .
فالجواب : أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله ، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به ، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له : وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلابد وأن تترصد قتلى في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلى إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان .
وهذا منى كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا ، وبين أن يكون أنت ، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي .
ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة ، وعلى هذا الشرط لا يكون حراما . ويجوز أن يكون المراد : إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلى . ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه .
وقال صاحب الانتصاف : فأما إرادته - أي إرادة هابيل - لإِثم أخيه وعقوبته - في قوله - تعالى { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } - فمعناه : إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب . ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول . اضطر إلى الثاني .
فهو لم يرد إذا إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أن الإِثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل - ولم تكن حينئذ مشروعة - فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه . وهذا كما يتمنى الإِنسان الشهادة ، ومعناه أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإِثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه ، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله .
وإلى هنا نرى . أن هابيل قد استعمل في صرف أخيه عن جريمة القتل وسائل متنوعة فهو أولا أرشده إلى أن الله - تعالى - إنما يتقبل الأعمال من المتقين ، فإذا أراد أن يتقبل قربانه فعليه أن يكون منهم .
وأرشده ثانيا إلى حقوق الأخوة وما تقتضيه من محبة ومودة وتسامح .
وأرشده ثالثا إلى أنه لا يمنعه من بسط يده إليه إلا الخوف من الله رب العالمين .
وأرشده رابعاً إلى أن ارتكابه لجريمة القتل سيؤدي به إلى عذاب النار يوم القيامة ، بسبب قتله لأخيه ظلماً وحسداً .
فماذا كان وَقْعُ هذا النصح الحكيم ، والإِرشاد القويم في نفس ذلك الإِنسان الحاسد الظالم ؟
لقد بين الله ذلك بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } .
أجل . لقد كان في ذلك كفاية . . ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير :
( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ، وذلك جزاء الظالمين ) . .
إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني ، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك . فهذا الخاطر - خاطر القتل - لا يدور بنفسي أصلا ، ولا يتجه اليه فكري إطلاقا . . خوفا من الله رب العالمين . . لا عجزا عن إتيانه . . وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك ؛ فيكون إثمك مضاعفا ، وعذابك مضاعفا . . ( وذلك جزاء الظالمين ) . .
وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل ، ليثنيه عما تراوده به نفسه ، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي .
وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه ، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف ، بالخوف من الله رب العالمين ؛ وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان .
وقوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي ، في قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطًا ؛ لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه . يعني : ما رواه سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } قال : بقتلك إياي ، { وَإِثْمِكَ } قال : بما كان منك قبل ذلك .
وكذا روى{[9645]} عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثْله ، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعًا .
قلت : وقد يتوهم{[9646]} كثير من الناس هذا القول ، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له : ما ترك القاتل على المقتول من ذنب .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا ، ولكن ليس به ، فقال : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثنَا يعقوب بن عبد الله ، حدثنا عتبة{[9647]} بن سعيد ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه " .
وهذا بهذا لا يصح{[9648]} ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل فلا . ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص ، وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت{[9649]} ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت{[9650]} على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل . وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها ، والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال{[9651]} : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي - وذلك هو معنى قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } وأما معنى { وَإِثْمِكَ } فهو إثمه بغير{[9652]} قتله ، وذلك معصيته الله ، عز وجل ، في أعمال سواه .
وإنما قلنا هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه ، وأن الله ، عز وجل ، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه{[9653]} وإذا كان هذا{[9654]} حكمه في خلقه ، فغير جائز أن تكون{[9655]} آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله .
هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله ، وإثم نفسه ، مع أن قتله له محرم ؟ وأجاب بما حاصله{[9656]} أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله ، بل يكف يده عنه ، طالبًا - إنْ وقع قتل - أن يكون من أخيه لا منه .
قلت : وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ ، وزجرًا له لو انزجر ؛ ولهذا قال : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : تتحمل إثمي وإثمك { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }
{ إِنّيَ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في حديثه عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إثم قتلي إلى إثمك الذي في عنقك فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول بقتلك إياي ، وإثمك قبل ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ قال : بإثم قتلي وإثمك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي ، تبوء بهما جميعا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إني أريد أن تبوء بقتلك إياي . وإثْمِكَ قال : بما كان منك قبل ذلك .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : ثني عبيد بن سليم ، عن الضحاك ، قوله : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ قال : أما إثمك ، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس ، يعني أخاه . وأما إثمه : فقتله أخاه .
وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ : أي إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ، فحذف القتل واكتفى بذكر الإثم ، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطا ، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي ، وذلك هو معنى قوله : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي . وأما معنى وإثْمِكَ : فهو إثمه بغير قتله ، وذلك معصية الله جلّ ثناؤه في أعمال سواه .
وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه ، لأن الله عزّ ذكره قد أخبرنا أن كلّ عامل فجزاء عمله له أو عليه ، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرّم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله .
فإن قال قائل : أو ليس قتل المقتول من بين آدم كان معصية لله من القاتل ؟ قيل : بلى ، وأعْظِمْ بها معصية .
فإن قال : فإذا كان لله جلّ وعزّ معصية ، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ويقول : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وقد ذكرت أن تأويل ذلك : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ؟ فمعناه : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني لأني لا أقتلك ، فإن أنت قتلتني فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي . وهو إذا قتله ، فهو لا محالة باء به في حكم الله ، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطأ .
ويعني بقوله : فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمينَ يقول : فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم ، ووقود النار المخلدين فيها . وذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمِينَ يقول : والنار ثواب التاركين طريق الحقّ الزائلين عن قصد السبيل ، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم . وهذا يدلّ على أن الله عزّ ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد ، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل : فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي ، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين . فكان مجاهد يقول : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج .
حدثنا بذلك القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد ذلك . قال : وقال عبد الله بن عمرو : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابَ ، عليه شطرُ عذابهم .
وقد رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما رُوي عن عبد الله بن عمرو خبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا جرير وأبو معاوية ( ح ) ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، ووكيع جميعا ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْما إلاّ كانَ على ابْنِ آدَمَ الأوّلِ كِفْلٌ مِنْها ، ذَلِكَ بأنه أَوّل مَنْ سَنّ القَتْلَ » .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ( ح ) . وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي ، قال : ما من مقتول يقتل ظلما ، إلا كان على ابن آدم الأوّل والشيطان كِفْلٌ منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو ، أنه كان يقول : إن أشقي الناس رجلاً لابنُ آدم الذي قتل أخاه ، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شيء ، وذلك أنه أوّل من سنّ القتل .
وبهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذَين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه ، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل ، وأن القول الذي حكي عنه ، أن أوّل من مات آدم ، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه أنه أوّل من سنّ القتل ، وقد كان لا شكّ القتل قبل إسرائيل ، فكيف قبل ذرّيته وخطأ من القول أن يقال : أوّل من سنّ القتل رجل من بني إسرائيل . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال : هو ابن آدم لصلبه ، لأنه أوّل من سنّ القتل ، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة ، والمعنى إنما استسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي ، وإثمك ببسطك يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم . وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي ، وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك ، وكلاهما في موضع الحال أي ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما ، ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفا فأريد أن يكون لك لا لي ، فالمراد بالذات أن لا يكون له أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة .
معنى { أريد } : أريد من إمساكي عن الدفاع . وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى : { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين } [ القصص : 27 ] ، وقوله : { يريد الله بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] . فالجملة تعليل للّتي قبلها ، ولذلك فصلت وافتتحت ب ( إنّ ) المشعرة بالتَّعليل بمعنى فاء التفريع .
و { تبوء } ترجع ، وهو رجوع مجازي ، أي تكتسب ذلك من فعلك ، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين . والأظهر في معنى قوله { بإثمي } مَا له من الآثام الفارطة في عمره ، أي أرجو أن يغفر لي وتُحمل ذنوبي عليك . وفي الحديث : " يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتّى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات المظلوم فتطرح عليه " رواه مسلم . فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شُرع في الإسلام ، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نُبوءة .
ومصدر { أن تبوء } هو مفعول { أريد } ، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك ، فإثم مراد به الجنس ، أي ما عسى أن يكون له من إثم . وقد أراد بهذا موعظة أخيه ، ولذلك عطف عليه قوله : { وإثمك } تذكيراً له بفظاعة عاقبة فعلته ، كقوله تعالى : { ليحملُوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم } [ النحل : 25 ] . فعطفُ قوله : { وإثمك } إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده . وكذلك قوله : { فنكون من أصحاب النار } تذكيراً لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء . ومعنى { من أصحاب النّار } أي ممّن يطول عذابه في النّار ، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموهَا .