40- قال الذي آتاه الله قوة روحية وعلماً من الكتاب : أنا آتيك بهذا العرش قبل أن تحرك أجفانك . وقد نفذ ما قال . فلما رأى سليمان العرش ثابتاً عنده غير مضطرب قال : هذا من فضل الله الذي خلقني وأمدني بخيره ليختبرني أأشكر هذه النعمة أم لا أؤدي حقها ؟ ومن شكر الله فإنما يحط عن نفسه عبء الواجب ، ومن يترك الشكر على النعمة فإن ربي غنى عن الشكر ، كريم بالإنعام .
ف{ قال الذي عنده علم من الكتاب } ، واختلفوا فيه فقال بعضهم : هو جبريل : وقيل : هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام . وقال أكثر المفسرين : هو أصف بن برخيا ، وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى . وروى جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد سليمان عينيه ، فنظر نحو اليمين ، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خداً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان . وقال الكلبي : خر آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان . وقيل : كانت المسافة مقدار شهرين . واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف ، فقال مجاهد ، ومقاتل : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الكلبي : يا حي يا قيوم . وروي ذلك عن عائشة . وروي عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها . وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان ، قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً : { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } قال سليمان : هات ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت . وقوله تعالى : { قبل أن يرتد إليك طرفك } قال سعيد بن جبير : يعني : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك . قال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر . وقال مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك ، { فلما رآه } يعني : رأى سليمان العرش ، { مستقراً عنده } محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ، { قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } نعمه { أم أكفر } فلا أشكرها ، { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } أي : يعود نفع شكره إليه ، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ، { ومن كفر فإن ربي غني } عن شكره ، { كريم } بالأفضال على من يكفر نعمه .
وكأن سليمان قد استبطأ إحضاره عرش تلك المملكة فى هذه الفترة التى حددها ذلك العفريت القوة ، فنهض جندى آخر من جنوده ، ذكره القرآن بقوله : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } . قالوا : والمراد بهذا الذى عنده علم من الكتاب : آصف بن برخيا ، وهو رجل من صلحاء بنى إسرائيل ، آتاه الله - تعالى - من لدنه علما ، وكان وزيرا لسليمان .
قالوا : وكان يعلم اسم الله الأعظم ، الذى إذا دعى به - سبحانه - أجاب الداعى ، وإذا سئل به - تعالى - أجاب السائل .
قيل : المراد به سليمان نفسه ، ويكون الخطاب على هذا العفريت ، فكأنه استبطأ ما قاله العفريت فقال له : - على سبيل التحقير - أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك .
وقيل : المراد به جبريل ، والأول هو المشهور عند المفسرين .
أى : قال الرجل الذى عنده علم من كتاب الله - تعالى - يا سليمان أنا آتيك بعرش بلقيس ، قبل أن تغمض عينك وتفتحها ، وهو كناية عن السرعة الفائقة فى إحضاره .
وفى ذلك ما فيه من الدلالة على شرف العلم وفضله وشرف حاملية وفضلهم وأن هذه الكرامة التى وهبها الله - تعالى - لهذا الرجل ، كانت بسبب ما آتاه - سبحانه - من علم .
وجاء عرش الملكة لسليمان من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، بتلك السرعة الفائقة { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أى : فلما رأى سليمان العرش المذكور حاضرا لديه ، وكائنا بين يديه . . . لم يغتر ولم يتكبر ، ولم يأخذه الزهو والعجب . بل قال - كما حكى القرآن عنه - : { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } .
أى : قال سليمان : هذا الذى أراهى من إحضار العرش بتلك السرعة من فضل ربى وعطائه ، لكى يمتحننى أأشكره على نعمه أم أجحد هذه النعم .
{ وَمَن شَكَرَ } الله - تعالى - على نعمه { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } حيث يزيده - سبحانه - منها .
{ وَمَن كَفَرَ } نعم الله - تعالى - وجحدها { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } عن خلقه { كَرِيمٌ } فى معاملته لهم ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، بل يعفو ويصفح عن كثير من ذنوبهم
فإذا ( الذي عنده علم من الكتاب )يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه ، ولا يذكر اسمه ، ولا الكتاب الذي عنده علم منه . إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله ، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد . وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين ، ولم يكشف سره ولا تعليله ، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية . وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات !
ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله : ( عنده علم من الكتاب )فقال بعضهم : إنه التوراة . وقال بعضهم : إنه كان يعرف اسم الله الأعظم . وقال بعضهم غير هذا وذاك . وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن . والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع ، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها ، وكم فيه من قوى لا نستخدمها . وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها . فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة ، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره ، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها .
وهذا الذي عنده علم من الكتاب ، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم ، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده ، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي ، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار .
وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه - عليه السلام - ونحن نرجح أنه غيره . فلو كان هو لأظهره السياق باسمه ولما أخفاه . والقصة عنه ، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر . وبعضهم قال : إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه .
( فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي ، ليبلوني أأشكر أم أكفر ? ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ) .
لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان - عليه السلام - وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز ؛ واستشعر أن النعمة - على هذا النحو - ابتلاء ضخم مخيف ؛ يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه ، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه ؛ ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم ، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه . والله غني عن شكر الشاكرين ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، فينال من الله زيادة النعمة ، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء . ومن كفر فإن الله( غني )عن الشكر( كريم )يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء .
قوله : قَالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ يقول جلّ ثناؤه : قال الذي عنده علم من كتاب الله ، وكان رجلاً فيما ذكر من بني آدم ، فقال بعضهم : اسمه بليخا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عثمة ، قال : حدثنا شعبة ، عن بشر ، عن قَتادة ، في قوله قالَ الّذي عنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : كان اسمه بليخا .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ رجل من الإنس .
حدثنا ابن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قول الله : قالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قال : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم .
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثني حماد بن محمد ، عن عثمان بن مطر ، عن الزهريّ ، قال : دعا الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كلّ شيء إلها واحدا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها ، قال : فمثل بين يديه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : رجل من بني آدم أحسبه قال : من بني إسرائيل ، كان يعلم اسم الله الذي إذا دعي به أجاب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : الاسم الذي إذا دعي به أجاب ، وهو : يا ذا الجلال والإكرام .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قال سليمان لمن حوله : أيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلِ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فقال عفريت أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، فقال رجل من الإنس عنده علم من الكتاب ، يعني اسم الله إذا دعي به أجاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ لا آتيك بغيره ، أقول غيره أمثله لك . قال : وخرج يومئذٍ رجل عابد في جزيرة من البحر ، فلما سمع العفريت قالَ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : ثم دعا باسم من أسماء الله ، فإذا هو يحمل بين عينيه ، وقرأ : فَلَمّا رآهُ مُسْتَقرّا عنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي . . . حتى بلغ إنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال رجل من الإنس . قال : وقال مجاهد : الذي عنده علم من الكتاب : علم اسم الله .
وقال آخرون : الذي عنده علم من الكتاب ، كان آصف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قَالَ عِفْرِيتٌ لسليمان أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ فزعموا أن سليمان بن داود قال : أبتغي أعجل من هذا ، فقال آصف بن برخيا ، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : أنا يا نبيّ الله آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ .
وقوله : أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبَير قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، فذلك قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال غير قَتادة قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ تمدّ عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك . قال : ذلك أريد .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثام ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : أخبرت أنه قال : ارفع طرفك من حيث يجيء ، فلم يرجع إليه طرفه حتى وضع العرش بين يديه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء ، عن مجاهد ، في قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : مدّ بصره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : إذا مدّ البصر حتى يردّ الطرف خاسئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : إذا مدّ البصر حتى يحسر الطرف .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : قبل أن يرجع إليك طرفك من أقصى أثره ، وذلك أن معنى قوله يَرَتَدّ إلَيْكَ يرجع إليك البصر ، إذا فتحت العين غير راجع ، بل إنما يمتدّ ماضيا إلى أن يتناهى ما امتدّ نوره . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله إنما أخبرنا عن قائل ذلك أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ لم يكن لنا أن نقول : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ راجعا إلَيْكَ طَرْفُكَ من عند منتهاه .
وقوله : فَلَمّا رآه مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ يقول : فلما رأى سليمان عرش ملكة سبأ مستقرّا عنده . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ظهر عما ترك ، وهو : فدعا الله ، فأتى به فلما رآه سليمان مستقرّا عنده .
وذُكر أن العالم دعا الله ، فغار العرش في المكان الذي كان به ، ثم نبع من تحت الأرض بين يدي سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سليمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : ذكروا أن آصِف بن برخيا توضأ ، ثم ركع ركعتين ، ثم قال : يا نبيّ الله ، امدد عينك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ سليمان عينه ينظر إليه نحو اليمن ، ودعا آصف فانخرق بالعرش مكانه الذي هو فيه ، ثم نبع بين يدي سليمان فَلَمّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرّا عِنْدَهَ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : نبع عرشها من تحت الأرض .
وقوله : قالَ هَذَا مِنْ فَضِلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي يقول : هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حمل إليّ عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام ، من فضل ربي الذي أفْضَلَه عليّ وعطائه الذي جاد به عليّ ، ليبلوني ، يقول : ليختبرني ويمتحنني ، أأشكر ذلك من فعله عليّ ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له ؟
وقد قيل : إن معناه : أأشكر على عرش هذه المرأة إذ أُتيت به ، أم أكفر إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلَمّا رآهُ مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ على السرير إذ أُتيت به أمْ أكْفُرُ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ .
وقوله : وَمَنْ شَكَرَ فإنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ يقول : ومن شكر نعمة الله عليه ، وفضله عليه ، فإنما يشكر طلب نفع نفسه ، لأنه ليس بنفع بذلك غير نفسه ، لأنه لا حاجة لله إلى أحد من خلقه ، وإنما دعاهم إلى شكره تعريضا منه لهم للنفع ، لا لاجتلاب منه بشكرهم إياه نفعا إلى نفسه ، ولا دفع ضرّ عنها . وَمَنْ كَفَرَ فإنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ يقول : ومن كفر نعمه وإحسانه إليه ، وفضله عليه ، لنفسه ظلم ، وحظّها بخَس ، والله غنّي عن شكره ، لا حاجة به إليه ، لا يضرّه كفر من كفر به من خلقه ، كريمٌ ، ومِن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه ، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه .
و{ الذي عنده علم من الكتاب } رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان .
و { مِن } في قوله : { من الكتاب } ابتدائية ، أي عنده علم مكتسب من الكتب ، أي من الحكمة ، وليس المراد بالكتاب التوراة . وقد عدّ في سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع أحد عشر رجلاً أهل خاصة سليمان بأسمائهم وذكر أهل التفسير والقصص أن : { الذي عنده علم من الكتاب } هو « آصف بن برخيا » وأنه كان وزير سليمان .
وارتداد الطرف حقيقته : رجوع تحديق العين من جهة منظورة تَحُول عنَها لحظة . وعبر عنه بالارتداد لأنهم يعبرون عن النظر بإرسال الطرف وإرسال النظر فكان الارتداد استعارة مبنية على ذلك .
وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة ، وأن الحكمة مكتسبة لقوله : { عنده علم من الكتاب } ، وأن قوة العناصر طبيعة فيها ، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضاً . فذكر في هذه القصة مثلاً لتغلب العلم على القوة . ولما كان هذان الرجلان مسخرَيْن لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى .
ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الإتيان بعرش بلقيس .
والظاهر أن قوله : { قبل أن تقوم من مقامك } وقوله : { قبل أن يرتد إليك طرفك } مثلان في السرعة والأسرعية ، والضمير البارز في { رءاه } يعود إلى العرش .
والاستقرار : التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار . وهذا استقرار خاص هو غير الاستقرار العام المرادف للكون ، وهو الاستقرار الذي يقدر في الإخبار عن المبتدأ بالظرف والمجرور ليكون متعلِّقاً بهما إذا وقعا خبراً أو وقعا حالاً ، إذ يقدر ( كائن ) أو ( مستقر ) فإن ذلك الاستقرار ليس شأنه أن يصرح به . وابن عطية جعله في الآية من إظهار المقدر وهو بعيد .
ولما ذَكر الفضل أضافه إلى الله بعنوان كونه ربّه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه . فليس إحسان الله إليه إلا فضلاً محضاً ، ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة ، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله .
وضرب حكمة خُلقية دينية وهي : { من شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كَفر فإن ربي غني كريم } ؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا ، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك .
فالكلام في قوله : { يشكر لنفسه } لام الأجْل وليست اللام التي يُعدى بها فعل الشكر في نحو { واشكُروا لي } [ البقرة : 152 ] . والمراد ب { من كفر } من كفر فضل الله عليه بأن عبَد غير الله ، فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا . وقد تقدم عند قوله فيما تقدم : { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك } [ النمل : 19 ] .
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { فإن ربي غني كريم } دون أن يقول : فإنه غني كريم ، تأكيد للاعتراف بتمحض الفضل المستفاد من قوله : { فضل ربي } .