وبعد أن بين - سبحانه - عاقبة من يرتد عن دينه أتبع ذلك ببيان عاقبة المؤمنين الصادقين فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال الإِمام الرازي : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :
الأول : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله : هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجراً وثواباً ؟ فنزلت الآية ، لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً ، وكان مجاهداً بسبب هذه المقاتلة .
وفي الثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد قبل بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به وجزاؤه فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد " .
والمعنى : إن الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، واستقاموا على طريق الحق ، وأذعنوا لحكمه ، واستجابوا لأوامر الله ونواهيه : { والذين هَاجَرُواْ } أي : تركوا أموالهم وأوطانهم من أجل نصرة دينهم : { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله } لإِعلاء كلمته { أولائك } الموصوفون بتلك الصفات الثلاثة { يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } أي : يؤملون تعلق رحمته - تعالى - بهم ، أو ثوابه على أعمالهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : واسع المغفرة للتائبين المستغفرين ، عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين .
قال القرطبي : " والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، والقصد ترك الأول إيثارا للثاني . والهجرة ضد الوصل ، والاسم الهجرة . وجاهد مفاعله من جهد إذا استخرج الجهد . والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود ، والجهاد - بالفتح - الأرض الصلبة .
وإنما قال { يَرْجُونَ } وقد مدحهم ، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين :
أحدهما : أنه لا يدري بماذا ختم له .
والثاني : لئلا يتكل على عمله ، والرجاء أبداً معه خوف كما أن الخوف معه رجاء " .
وجيء بهذه الأوصاف الثلاثة مترتبة على حسب الواقع إذا الإِيمان يكون أولا ثم المهاجرة من أرض الضالمين إذا لم يستطع دفع ظلمهم ، ثم الجهاد من أجل إعلاء كملة الحق .
وأفرد الإِيمان بموصول وحده لأنه أصل الهجرة والجهاد ، وجمع الهجرة والجهاد في موصول واحد لأنهما فرعان عنه .
وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد دعت المؤمنين إلى بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة الحق بأحكم أسلوب ، وبرأتهم مما أثاره المشركون حولهم من شبهات ، وحذرتهم من السير في طريقهم ، وبشرتهم بحسن العاقبة متى استجابوا لتعاليم دينهم ، واعتصموا بحبله .
وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله ؛ لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان :
( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله غفور رحيم ) . .
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدا . . ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق ، فجاهدوا وصبروا ، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة . وفازوا بمغفرة الله ورحمته : ( والله غفور رحيم ) . .
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلََئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يعني بذلك جل ذكره : إن الذين صدّقوا بالله وبرسوله ، وبما جاء به . وبقوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا : الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم ، ومجاورتهم في ديارهم ، فتحوّلوا عنهم ، وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها ، هجرة . . . لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه . وأصل المهاجرة المفاعلة ، من هجرة الرجل الرجل للشحناء تكون بينهما ، ثم تستعمل في كل من هجر شيئا لأمر كرهه منه .
وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم ، كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم ، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم إلى الموضع الذي يأمنون ذلك .
وأما قوله : وَجاهَدُوا فإنه يعني : وقاتلوا وحاربوا وأصل المجاهدة المفاعلة ، من قول الرجل : قد جهد فلان فلانا على كذا ، إذا كربه وشقّ عليه يجهده جهدا . فإذا كان الفعل من اثنين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة ، قيل : فلان يجاهد فلانا ، يعني أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشقّ عليه ، فهو يجاهده مجاهدة وجهادا . وأما سبيل الله : فطريقه ودينه .
فمعنى قوله إذا : وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا في سَبِيلِ اللّهِ والذين تحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم ، وخوف فتنتهم على أديانهم ، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه ، وفيما يرضى الله ، أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحَمةَ اللّهِ أي يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم ، واللّهُ غَفُورٌ أي ساتر ذنوب عباده بعفوه عنها ، متفضل عليهم بالرحمة .
وهذه الآية أيضا ذكر أنها نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه أنه حدّثه رجل ، عن أبي السوار يحدثه ، عن جندب بن عبد الله قال : لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه ، وأمر ابن الحضرمي ما كان قال بعض المسلمين إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم ، أظنه قال : وزرا ، فليس لهم فيه أجر ، فأنزل الله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا في سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني الزهري ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : أنزل الله عز وجل القرآن بما أنزل من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه ، يعني في قتلهم ابن الحضرمي ، فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا في سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فوقفهم الله من ذلك على أعظم الرجاء .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء ، فقال : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا في سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هؤلاء خيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون ، وأنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
إنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 218 )
وقوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا } الآية ، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما : لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين ، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم ، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية( {[2039]} ) في الشهر الحرام ، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله : { إن الذين آمنوا } ، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عز وجل ، وهاجر الرجال إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثاراً للثاني ، وهي مفاعلة من هجر ، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم( {[2040]} ) بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب ، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله ، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد ، { ويرجون } معناه يطمعون( {[2041]} ) ويستقربون ، والرجاء تنعم ، والرجاء أبداً معه خوف ولا بد ، كما أن الخوف معه رجاء( {[2042]} ) ، وقد يتجوز أحياناً ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف ، كما قال الهذلي : [ الطويل ]
إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا . . . وَحَالَفَهَا في بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ( {[2043]} )
وقال الأصمعي : «إذ اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف » ، كهذا البيت ، وكقوله عز وجل : { لا يرجون لقاءنا }( {[2044]} ) [ سورة يونس : الآيات : 7- 11- 15 ، سورة الفرقان : الآية 21 ] ، المعنى لا يخافون ، وقد قيل : إن الرجاء في الآية على بابه ، أي لا يرجون الثواب في لقائنا ، وبإزاء ذلك خوف العقاب ، وقال قوم : اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين ، وليس هذا بجيد ، وقال الجاحظ في كتاب البلدان : «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله ، فهو يصبر عليه »( {[2045]} ) ، وباقي الآية وعد .