مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَرۡجُونَ رَحۡمَتَ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (218)

قوله عز وجل :{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم }

في الآية مسألتان :

المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجرا وثوابا فنزلت هذه الآية ، لأن عبد الله كان مؤمنا ، وكان مهاجرا ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا والثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله } ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد .

المسألة الثانية : { هاجروا } أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم ، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل ، ومنه قيل للكلام القبيح : هجر ، لأنه مما ينبغي أن يهجر ، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل ، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة ، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين ، وهو أيضا هجرهم بهذا السبب ، فكان ذلك مهاجرة ، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة ، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله ، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة ، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو ، وعند فعل العدو ، ومثل ذلك فتصير مفاعلة .

ثم قال تعالى : { أولئك يرجون رحمة الله } وفيه قولان : الأول أن المراد منه الرجاء ، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها ، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالفوز والثواب في عمله ، بل كان يتوقعه ويرجوه .

فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقا بالرجاء ، ولم يقع به كما في سائر الآيات ؟ .

قلنا : الجواب من وجوه أحدها : أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلا ، بل بحكم الوعد ، فلذلك علقه بالرجاء وثانيها : هب أنه واجب عقلا بحكم الوعد ، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن ، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها : أن المذكور ههنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها : ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد ، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى ، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } .

القول الثاني : أن المراد من الرجاء : القطع واليقين في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته ، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } .

ثم قال تعالى : { والله غفور رحيم } أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح ، وأنه غفور رحيم ، غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم .