السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (46)

{ ويكلم الناس في المهد } أي : صغيراً قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم قال : { قال إني عبد الله آتاني الكتاب } ( مريم ، 30 ) الآية . وحكي عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع . والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى : { وكهلاً } عطف على في المهد أي : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء ، وقد رفع بعد كهولته ، وقيل : إنه رفع شاباً وعلى هذا المراد كهلاً بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية .

فإن قيل : فما فائدة البشارة بكلامه كهلاً والناس في ذلك سواء ؟ أجيب : بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى : { ومن الصالحين } أي : من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم .

فإن قيل : لم ختم الصفات المذكورة بقوله : { ومن الصالحين } بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحاً ؟ أجيب : بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعد النبوّة { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } ( النمل ، 19 ) فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات .