غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (46)

42

والمهد قيل : حجر أمه . وقيل : الآلة المعروفة لإضجاع الصبي . وكيف كان فالمراد أنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد

{ وكهلاً } عطف على الظرف أي يكلم الناس في الصغر وفي الكهولة . والكهل في اللغة الذي اجتمع قوته وكمل شبابه من قولهم : " اكتهل النبات " أي قوي . روي أن عمره بلغ ثلاثاً وثلاثين ثم رفع إلى السماء . ولا ريب أن أكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين والأربعين ، فيكون عيسى قد بلغ سن الكهولة . وعن الحسين بن الفضل : المراد أن يكون كهلاً بعد نزوله من السماء وأنه حينئذٍ يكلم الناس ويقتل الدجال . فإن قيل : إن تكلمه في المهد من المعجزات ، ولكن تكلمه في حالة الكهولة ليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره ؟ فالجواب من وجوه . قال أبو مسلم : معناه أنه يتكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة ، ولا شك أنه غاية في الإعجاز ، وقيل : المراد الرد على نصارى نجران وبيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة ؛ فإن التغير على الإله محال . وقيل : المراد أنه يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة . وقال الأصم : المراد أنه يبلغ حال الكهولة .

ويخرج من قول الحسين بن الفضل جواب آخر . وههنا بحث للنصارى قالوا : إن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن مثل هذه الواقعة يكون بمحضر جمع عظيم وتتوفر الدواعي على نقلها فيبلغ حد التواتر . فلو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى لأنهم أفرطوا في محبته حتى ادّعوا إلهيته ، لكنهم أطبقوا على إنكاره فعلمنا أنها لم توجد أصلاً . والجواب أن إطباق النصارى على إنكاره ممنوع . ولو سلم فإن كلام عيسى في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم مما نسب إليها من السوء وكان الحاضرون حينئذٍ جمعاً قليلاً ولا يبعد في مثلهم التواطؤ على الإخفاء . وبتقدير أن يذكروا ذلك فإن غيرهم كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت . فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة . فلهذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً إلى أن نطق القرآن بذلك . ثم ختم أوصاف عيسى بقوله : { ومن الصالحين } كما ختم بذلك أوصاف يحيى . وفيه أن الدخول في زمرة الصالحين والانتظام في سلكهم هو المقصد الأسني والأمر الأقصى .

/خ60