الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (46)

" ويكلم الناس " عطف على " وجيها " قاله الأخفش أيضا . و " المهد " مضجع الصبي في رضاعه . ومهدت الأمر هيأته ووطأته . وفي التنزيل

" فلأنفسهم يمهدون " {[3103]} [ الروم : 44 ] . وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير . " وكهلا " الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة . وامرأة كهلة . واكتهلت الروضة إذا عمها النور . يقول : يكلم الناس في المهد آية ، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة . وقال أبو العباس : كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال : " إني عبد الله " {[3104]} [ مريم : 30 ] الآية . وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء{[3105]} أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم : " إني عبد الله " كما قال في المهد . فهاتان آيتان وحجتان . قال المهدوي : وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا ، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش . قال الزجاج : " وكهلا " بمعنى ويكلم الناس كهلا . وقال الفراء والأخفش : هو معطوف على " وجيها " . وقيل : المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا . وروى ابن جريح عن مجاهد قال : الكهل الحليم . قال النحاس : هذا لا يعرف في اللغة ، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين . وقال بعضهم : يقال له حدث إلى ست عشرة سنة . ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين . ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين ، قاله الأخفش . " ومن الصالحين " عطف على " وجيها " أي وهو من العباد الصالحين . ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف . قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج ، كذا قال : " وصاحب يوسف " . وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبيْنا صبي يرضع من أمه ) وذكر الحديث بطوله{[3106]} . وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود ( أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي ) . في غير كتاب مسلم ( يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام : يا أمه اصبري فإنك على الحق ) . وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف ، وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ويحيى ، وصاحب جريج ، وصاحب الجَبّار . ولم يذكر الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود وبه يكون المتكلمون سبعة . ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ) بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحى إليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به .

قلت : أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه ، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم . وستأتي قصة الأخدود في سورة " البروج " {[3107]} إن شاء الله تعالى . وأما صبي ماشطة امرأة فرعون ، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت : ما هذه الرائحة ؟ قالوا : ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت : بسم الله فقالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : ربي وربك ورب أبيك . قالت : أوَلكِ رب غير أبي ؟ قالت : نعم ربي وربك ورب أبيك الله - قال - فدعاها فرعون فقال : ألك رب غيري ؟ قالت : نعم ربي وربك الله - قال - فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال : ذاك لك لما لك علينا من الحق . فأمر{[3108]} بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق - قال - وتكلم أربعة وهم صغار : هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم .


[3103]:- راجع القرطبي جـ14 ص 44.
[3104]:- راجع جـ11 ص 102.
[3105]:- الزيادة عن البحر لأبي حيان.
[3106]:- راجع صحيح مسلم جـ2 ص 276 طبع بولاق راجع جـ19.
[3107]:- راجع جـ19 ص 284.
[3108]:- يبدو هنا سقط في كل الأصول، فقوله: واحدا بعد واحد من قصة أصحاب الأخدود لا صلة له بما قبله. راجع جـ19 ص 286.