قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، وفي حكم هذا الاستثناء ، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبلها لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا } وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ، ويزول عنه اسم الفسق . يروى ذلك عن ابن عباس وعمر ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وبه قال مالك والشافعي . وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : { وأولئك هم الفاسقون } وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي ، وقالوا : بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد . قال الشافعي : وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد ، لأن الحدود كفارات ، فكيف يردونها في أحسن حاليه ويقبلونها في شر حاليه . وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة ، وقال : الاستثناء يرجع إلى الكل . وعامة العلماء على أنه يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط ، كالقصاص يسقط بالعفو ، ولا يسقط بالتوبة . فإن قيل : إذا قبلتم شهادته من بعد التوبة فما معنى قوله أبداً ؟ قيل : معناه لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصراً على قذفه ، لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله . كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً : يراد ما دام كافراً .
وبعد أن نفر - سبحانه - من جريمة الزنا أعظم تنفير ، وأمر بتنفيذ عقوبته فى مرتكبها بدون رأفة أو تساهل . . . أتبع ذلك بتشريعات أخرى من شأنها أن تحمى أعراض الناس وأنفسهم من اعتداء المعتدين ، فقال - تعالى - : { والذين يَرْمُونَ . . . } .
قوله - تعالى - { يَرْمُونَ } من الرمى ، وأصله القذف بشىء صلب أو ما يشبهه تقول : رمى فلان فلانا بحجر . إذا قذفه به . والمراد به هنا : الشتم والقذف بفاحشة الزنا ، أو ما يستلزمه كالطعن فى النسب .
قال الإمام الرازى : وقد أجمع العلماء على أن المراد هنا : الرمى بالزنا .
وفى الآية أقوال تدل عليه . أحدها : تقدم ذكر الزنا . وثانيها : أنه - تعالى - ذكر المحصنات ، وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد بالرمى رميهن بضد العفاف ، وثالثها : قوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعنى على صحة ما رموهن به ، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا بالزنا ، ورابعها : انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمى بغير الزنا . فوجب أن يكون المراد هنا هو الرمى بالزنا . . . " .
و " المحصنات " جمع محصنة ، والإحصان فى اللغة بمعنى المنع ، هذه درع حصينة ، أى : مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال هذا موضع حصين ، أى : مانع من يريده بسوء .
والمراد بالمحصنات هنا : النساء العفيفات البعيدات عن كل ريبة وفاحشة .
وسميت المرأة العفيفة بذلك . لأنها تمنع نفسها من كل سوء .
قالوا : ويطلق الإحصان على المرأة والرجل ، إذا توفرت فيهما صفات العفاف . والإسلام ، والحرية ، والزواج .
وأنما خص - سبحانه - النساء بالذكر هنا : لأن قذفهن أشنع ، والعار الذى يلحقهن بسبب ذلك أشد ، وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء .
وقوله - تعالى - : { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . . } مبتدأ ، أخبر عنه بعد ذلك بثلاث جمل ، وهى قوله : " فاجلدوهم . . . ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون " .
والمعنى أن الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به ، فاجلدوا - أيها الحكام - هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة ، عقابا لهم على ما تفوهوا به من سوء فى حق هؤلاء المحصنات ، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذسفين شهادة أبدا بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو بىء منها . وأولئك هم الفاسقون . أى : الخارجون على أحكام شريعة الله - تعالى - وعلى آدابها السامية .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات .
أولاها : حسية ، وتتمثل فى جلدهم ثمانين جلدة ، وهى عقوبة قريبة من عقوبة الزنا .
وثانيتها : معنوية ، وتتمثل فى عدم قبول شهادتهم ، بأن تهدر أقوالهم ، ويصيرون فى المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين ، الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم ، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم ، لأنهم انسخلت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم .
وثالثتها : دينية ، وتتمثل فى وصف الله - تعالى - لهم بالفسق . أى : بالخروج عن طاعته - سبحانه - وعن آداب دينه وشريعته .
وما عاقب الله - تعالى - هؤلاء القاذفين فى أعراض الناس ، بتلك العقوبات الرادعة ، إلا لحكم من أهمها : حماية أعراض المسلمين من ألسنة السوء ، وصيانتهم من لك ما يخدش كرامتهم ، ويجرح عفافهم .
وأقسى شىء على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة ، أن تلصق بهم التهم الباطلة . وعلى رأس الرذائل التى تؤدى إلى فساد المجتمع ، ترك ألسنة السوء تنهش أعراض الشرفاء ، دون أن تجد هذه الألسنة من يخرسها أو يردعها .
وقد اتفق الفقهاء على أن الاستثناء فى قوله - تعالى - { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } يعود على الجملة الأخيرة . بمعنى أن صفة الفسق لا تزول عن هؤلاء القاذفين للمحصنات إلا بعد توبتهم وصلاح حالهم .
أى : وأولئك القاذفون للمحصنات دون أن يأتوا بأربعة شهداء على صحة ما قالوه . هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله - تعالى - ، إلا الذين تابوا منهم من بعد ذلك توبة صادقة نصوحا ، وأصحلوا أحوالهم وأعمالهم ، فإن الله - تعالى - كفيل بمغفرة ذنوبهم ، وبشمولهم برحمته .
كما اتفقوا - أيضا - على أن هذا الاستثناء لا يعود إلى العقوبة الأولى وهى الجلد ، لأن هذه العقوبة يجب أن تنفذ عليهم ، متى ثبت قذفهم للمحصنات ، حتى ولو تابوا وأصلحوا .
والخلاف إنما هو فى العقوبة الوسطى وهى قبول شهادتهم ، فجمهور الفقهاء يرون صحة عودة الاستثناء عليها بعد التوبة ، فيكون المعنى : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ، فاقبلوا شهادتهم .
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الاستثناء لا يرجع إلى قبول شهادتهم ، وإنما يرجع فقط إلى العقوبة الأخيرة وهى الفسق ، فهم لا تقبل شهادتهم أبدا أى : طول مدة حياتهم ، حتى وإن تابوا وأصلحوا .
وقد فصل القول فى هذه المسألة الإمام القرطبى فقال ما ملخصه : " تضمنت الآية ثلاثة أحكام فى القاذف : جلده ، ورد شهادته أبدا ، وفسقه .
فالاستثناء غير عامل فى جلده وإن تاب - أى أنه يجلد حتى ولو تاب .
وعامل فى فسقه بإجماع . أى : أن صفة الفسق تزول عنه بعد ثبوت توبته .
واختلف الناس فى عمله فى رد الشهادة . فقال أبو حنيفة وغيره : " لا يعمل الاستثناء فى رد شهادته . وإنما يزول فسقه عند الله - تعالى - . وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة . ولو تاب وأكذب نفسه ، ولا بحال من الأحوال .
وقال الجمهور : الاستثناء عامل فى رد الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وإنما كان ردها لعلة الفسق ، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا ، قبل الحد وبعده . وهو قول عامة الفقهاء .
ثم اختلفوا فى صورة توبته ، فمذهب عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - والشعبى وغيره : أن توبته لا تكون - مقبولة - إلا إذا كذب نفسه فى ذلك القذف الذى حد فيه .
وقالت فرقة منها مالك وغيره : توبته أن يصلح ويحسن حاله ، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ، وحسبه الندم على قذفه ، والاستغفار منه ، وترك العود إلى مثله " .
ويبدو لنا أن ما أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هو الأولى بالقبول ، لأن اعتراف القاذف بكذبه ، فيه محو لآثار هذا القذف ، وفيه تبرئة صريحة للمقذوف ، وهذه التبرئة تزيده انشراحا وسرورا ، وترد إليه اعتباره بين أفراد المجتمع .
كما يبدو لنا أن الأَوْلى فى هذه الحالة أن تقبل شهادة القاذف ، بعد هذه التوبة التى صاحبها اعتراف منه بكذبه فيما قال : لأن إقدامه على تكذيب نفسه قرينة على صدق توبته وصلاح حاله .
وهكذا يحمى الإسلام أعراض أتباعه ، بهذه التشريعات الحكيمة ، التى يؤدى اتباعها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة .
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف ، بعد الحد ، مصلتة فوق رأسه ، إلا أن يتوب :
( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) . .
وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء : هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها ، فيرفع عنه وصف الفسق ، ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته ، وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ، فيرتفع الفسق بالتوبة ، ويبقى مردود الشهادة . وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته ، وإن تاب ، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ؛ فحينئذ تقبل شهادته .
وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف . وبذلك يمحي آخر أثر للقذف . ولا يقال : إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة ! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا ؛ ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . . بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما ، ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ؛ فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
اختلف أهل التأويل في الذي استثني منه قوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا منْ بَعْدِ ذَلكَ وأصْلَحُوا فقال بعضهم : استثني من قوله : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ وقالوا : إذا تاب القاذف قُبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق ، حُدّ فيه أو لم يحدّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن حماد الدّولابيّ ، قال : ثني سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد إن شاء الله ، أن عمر قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك ، أو رَدّيْت شهادتك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب ضرب أبا بكرة وشبلَ بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة حَدّهم . وقال لهم : من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل ، ومن لم يفعل لم أجز شهادته . فأكذب شبلٌ نفسَه ونافع ، وأبى أبو بكرة أن يفعل . قال الزهريّ : هو والله سُنّة فاحفظوه .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبيّ ، قال : إذا تاب يعني القاذف ولم يعلم منه إلاّ خير ، جازت شهادته .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، قال : على الإمام أن يستتيب القاذف بعد الجَلْد ، فإن تاب وأونس منه خير جازت شهادته ، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، أنه قال في القاذف : إذا تاب وعلم منه خير إن شهادته جائزة ، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته ، وتوبته إكذابه نفسه .
قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، نحوه .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، قال في القاذف : إذا تاب وأكذب نفسه قُبلت شهادته ، وإلا كان خليعا لا شهادة له لأن الله يقول : لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى آخر الآية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ أنه كان يقول في شهادة القاذف : إذا رجع عن قوله حين يُضرب ، أو أكذب نفسه ، قُبلت شهادته .
قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي أنه كان يقول : يقبل الله توبته ، وتردّون شهادته ؟ وكان يقبل شهادته إذا تاب .
قال : أخبرنا إسماعيل عن الشعبيّ أنه كان يقول في القاذف : إذا شهد قبل أن يُضرب الحدّ ، قُبلت شهادته .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبيدة عن إبراهيم ، وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ، أنهما قالا في القاذف : إذا شهد قبل أن يُجلد فشهادته جائزة .
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر ، يعني ابن عُلَية ، سمعت ابن أبي نجيح يقول : القاذف إذا تاب تجوز شهادته . وقال : كنا نقوله . فقيل له : من ؟ قال : قال عطاء وطاوس ومجاهد .
حدثنا ابن بشار ، وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن عمر بن طلحة ، عن عبد الله ، قال : إذا تاب القاذف جلد وجازت شهادته . قال أبو موسى : هكذا قال ابن أبي عَثْمة .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عَثْمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن سليمان بن يسار والشعبي قالا : إذا تاب القاذف عند الجلد جازت شهادته .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة : أن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة جلد رجلاً في قذف ، فقال : أَكْذِبْ نفسك حتى تجوز شهادتك
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، قال : سمعت إبراهيم والشعبيّ يتذاكران شهادة القاذف ، فقال الشعبيّ لإبراهيم : لِم لا تقبل شهادته ؟ فقال : لأني لا أدري تاب أم لا .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : تُقبل شهادته إذا تاب .
قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يعقوب بن القعقاع ، عن محمد بن زيد ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن جُرَيج ، عن عمران بن موسى ، قال : شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : قال الشعبيّ : إذا تاب جازت شهادته ، قال ابن المثنى . قال : عندي ، يعني في القذف .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا مسعر ، عن عمران بن عمير : أن عبد الله بن عتبة كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب .
حدثني يعقوب ، قال : ثني هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : إذا تاب وأصلح قُبلت شهادته يعني القاذف .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، عن ابن المسيب ، قال : تقبل شهادة القاذف إذا تاب .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، عن ابن المسيب ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد ، عن معمر ، قال : قال الزُهريّ : إذا حدّ القاذف ، فإنه ينبغي للإمام أن يستتيبه ، فإن تاب قُبلت شهادته ، وإلاّ لم تقبل . قال : كذلك فعل عمر بن الخطاب بالذين شهدوا على المغيرة بن شعبة ، فتابوا إلاّ أبا بكرة ، فكان لا تقبل شهادته .
وقال آخرون : الاستثناء في ذلك من قوله : وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون .
وأما قوله : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا أشعث بن سوّار ، قال : ثني الشعبيّ ، قال : كان شريح يجيز شهادة صاحب كلّ عمل إذا تاب إلاّ القاذف ، فإن توبته فيما بينه وبين ربه ولا نجيز شهادته .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا أشعث بن سوار ، قال : حدثنا الشعبيّ ، عن شُريح بنحوه ، غير أنه قال : صاحب كلّ حدّ إذا كان عدلاً يوم شهد .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، قال : كان لا يجيز شهادة القاذف ، ويقول : توبته فيما بينه وبين ربه .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن مُطَرّف ، عن أبي عثمان ، عن شريح في القاذف : يقبل الله توبته ، ولا أقبل شهادته .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الشعبيّ ، قال : أتاه خصمان ، فجاء أحدهما بشاهد أقطع ، فقال الخصم : ألا ترى ما به ؟ قال : قد أراه . قال : فسأل القوم ، فأثنوا عليه خيرا ، فقال شريح : نجيز شهادة كل صاحب حدّ ، إذا كان يوم شهد عدلاً إلاّ القاذف ، فإن توبته فيما بينه وبين ربه .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الشعبيّ ، قال : جاء خصمان إلى شُرَيح ، فجاء أحدهما ببينة ، فجاء بشاهد أقطع ، فقال الخصم : ألا ترى إلى ما به ؟ فقال شريح : قد رأيناه ، وقد سألنا القوم فأثنوا خيرا . ثم ذكر سائر الحديث ، نحو حديث أبي كريب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الشيبانيّ ، عن الشعبيّ ، عن شريح أنه كان يقول : لا تُقبل له شهادة أبدا ، توبته فيما بينه وبين ربه يعني القاذف .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الأشعث ، عن الشعبيّ ، بأن ربابا قطع رجلاً في قَطْعِ الطريق ، قال : فقطع يده ورجله . قال : ثم تاب وأصلح ، فشهد عند شريح ، فأجاز شهادته . قال : فقال المشهود عليه : أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع ؟ قال : فقال شريح : كل صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح ، فشهادته جائزة إلاّ القاذف .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا شعبة ، قال المغيرة : أخبرني ، قال : سمعت إبراهيم يحدّث عن شريح ، قال : قضاء من الله لا تقبل شهادته أبدا ، توبته فيما بينه وبين ربه . قال أبو موسى : يعني القاذف .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : قال شريح : لا يقبل الله شهادته أبدا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن قَتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لا تجوز شهادة القاذف ، توبته فيما بينه وبين الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن ، أنه قال : القاذف توبته فيما بينه وبين الله ، وشهادته لا تُقبل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن قَتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لا تجوز شهادة القاذف ، توبته فيما بينه وبين الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن ، أنه قال : القاذف توبته فيما بينه وبين الله ، وشهادته لا تُقبل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم أنه قال في الرجل يُجْلَد الحدّ ، قال : لا تجوز شهادته أبدا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يقبل له شهادة أبدا ، وتوبته فيما بينه وبين الله يعني القاذف .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا تَجُوزُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ فِي الإسْلامِ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا قال : كان يقول : لا تقبل شهادة القاذف أبدا ، إنما توبته فيما بينه وبين الله . وكان شريح يقول : لا تُقبل شهادته .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا ، ثم قال : فَمَنْ تابَ وأصْلَحَ فشهادته في كتاب الله تقبل .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الاستثناء من المعنيين جميعا ، أعني من قوله : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا ، ومن قوله : وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن ذلك كذلك إذا لم يحدّ في القذف حتى تاب ، إما بأن يرفع إلى السلطان بعفو المقذوفة عنه ، وإما بأن ماتت قبل المطالبة بحدّها ولم يكن لها طالب يطلب بحدّها . فإذ كان ذلك كذلك وحدثت منه توبة صحت له بها العدالة .
فإذ كان من الجميع إجماعا ، ولم يكن الله تعالى ذكره شرط في كتابه أن لا تقبل شهادته أبدا بعد الحدّ في رميه ، بل نهى عن قبول شهادته في الحال التي أوجب عليه فيها الحدّ وسماه فيها فاسقا ، كان معلوما بذلك أنّ إقامة الحدّ عليه في رميه ، لا تحدث في شهادته مع التوبة من ذنبه ، ما لم يكن حادثا فيها قبل إقامته عليه ، بل توبته بعد إقامة الحدّ عليه من ذنبه أحرى أن تكون شهادته معها أجوز منها قبل إقامته عليه لأن الحدّ يزيد المحدود عليه تطهيرا من جُرمه الذي استحقّ عليه الحدّ .
فإن قال قائل : فهل يجوز أن يكون الاستثناء من قوله : فاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً فتكون التوبة مُسقطة عنه الحدّ ، كما كانت لشهادته عندك قبل الحدّ وبعده مجيزة ولاسم الفسق عنه مزيلة ؟ قيل : ذلك غير جائز عندنا وذلك أن الحدّ حقّ عندنا للمقذوفة كالقصاص الذي يجب لها من جناية يجنيها عليها مما فيه القصاص . ولا خلاف بين الجميع أن توبته من ذلك لا تضع عنه الواجب لها من القصاص منه ، فكذلك توبته من القذف لا تضع عنه الواجب لها من الحدّ ، لأن ذلك حقّ لها ، إن شاءت عفته ، وإن شاءت طالبت به . فتوبة العبد من ذنبه إنما تضع عن العبد الأسماء الذميمة والصفات القبيحة ، فأما حقوق الاَدميين التي أوجبها الله لبعضهم على بعض في كلّ الأحوال فلا تزول بها ولا تبطل .
واختلف أهل العلم في صفة توبة القاذف التي تقبل معها شهادته ، فقال بعضهم : هو إكذابه نفسه فيه . وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى قبل ، ونحن نذكر بعض ما حضرنا ذكره مما لم نذكره قبل .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن ليث ، عن طاوس ، قال : توبة القاذف أن يكذّب نفسه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، قال : رأيت رجلاً ضُرب حدّا في قذف بالمدينة ، فلما فرغ من ضربه تناول ثوبه ، ثم قال : أستغفر الله وأتوب إليه من قذف المحصنات قال : فلقيت أبا الزناد ، فذكرت ذلك له ، قال : فقال : إن الأمر عندنا هاهنا أنه إذا قال ذلك حين يفرغ من ضربه ولم نعلم منه إلاّ خيرا قُبلت شهادته .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا وأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إلاّ الّذِينَ تابُوا . . . الآية ، قال : من اعترف وأقرّ على نفسه علانية أنه قال البهتان وتاب إلى الله توبة نصوحا والنصوح : أن لايعودوا ، وإقراره واعترافه عند الحدّ حين يؤخذ بالجلد فقد تاب والله غفور رحيم .
وقال آخرون : توبته من ذلك صلاح حاله وندمه على ما فرط منه من ذلك والاستغفار منه وتركه العود في مثل ذلك من الجُرم . وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم ، وقد ذكرنا بعض قائليه فيما مضى ، وهو قول مالك بن أنس .
وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب لأن الله تعالى ذكره جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود منه ، والندم على ما سلف منه ، واستغفار ربه منه ، فيما كان من ذنب بين العبد وبينه دون ما كان من حقوق عباده ومظالمهم بينهم . والقاذف إذا أُقيم عليه فيه الحدّ أو عُفي عنه فلم يبق عليه إلاّ توبته من جرمه بينه وبين ربه ، فسبيل توبته منه سبيل توبته من سائر أجرامه . فإذ كان الصحيح في ذلك من القول ما وصفنا ، فتأويل الكلام : وأولئك هم الفاسقون ، إلاّ الذين تابوا من جُرمهم الذي اجترموه بقذفهم المحصنات من بعد اجترامهموه ، فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : ساتر على ذنوبهم بعفوه لهم عنها ، رحيم بهم بعد التوبة أن يعذّبهم عليها ، فاقبلوا شهادتهم ولا تسموهم فَسَقة ، بل سموهم بأسمائهم التي هي لهم في حال توبتهم .
{ إلا الذين تابوا } عن القذف . { من بعد ذلك وأصلحوا } أعمالهم بالتدارك ، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف ، والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل ، لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء ، وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم ، وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده . { فإن الله غفور رحيم } علة للاستثناء .
و { تابوا } معناه رجعوا{[8607]} وهذا ترجيح ، وقد رجح الطبري وغيره قول مالك واختلف أيضاً على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز شهادته ، فقال مالك رحمه الله تجوز في كل شيء بإطلاق وكذلك كل من حد في شيء من الأَشياء ، وقال سحنون رحمه الله من حد في شيء من الأَشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه ، وقال مطرف وابن الماجشون من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى ولا في قذف ولا في لعان ، وإن كان عدلاً ، ورويا هذا القول عن مالك واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَن شهادته لا تجوز في الزنا .