الآية 5 : ( وقوله تعالى : ]إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم[ أصله{[13714]} ) أن كل توبة كانت بعد التمكين فهي لا ترفع الحكم الذي جعل له بالحد ، وكل توبة كانت قبل التمكين فهي ترفع العقوبات كقوله : ]إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم[ ( المائدة : 34 ) فلو لم يرفعوا عنهم تلك العقوبات لكانوا يتمادون في السعي في الأرض بالفساد . وأما نحن فيه فليس في ذلك التمادي فيه .
وزعم الشافعي أن حاله قبل الحد وبعد ذلك سواء . هذا خلاف ما نص الله عليه . قال الله تعالى : ]والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة[ الآية . وقال : ]فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون[ ( النور : 13 ) فجعلهم كاذبين عند العجز عن ( الإتيان بالشهداء ){[13715]} وكان أمرهم قبل ذلك موقوفا .
فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا ، وهي الحال التي جعلهم الله فيها كاذبين .
فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحد كحاله قبل ذلك مخطىء . ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا ، لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد .
ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكر قال له : إن تبت قبلت شهادتك ، وأنه قبل أن يجلد لم يرد شهادته ، لأنه لو كان عنده مجروحا بالقذف لم يسمع شهادتهم . ولا أعلم بين أهل العلم خلاف أنه لا تقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب ، وإنما يختلفون في شهادته بعد التوبة ، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة . فكيف تشتبه الحالتان مع ما وصفنا ؟
وقال غيرهم : التوبة تزيل فسقه ، ولا تجوز شهادته ؛ قالوا : الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " المسملون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف " ( البيهقي في الكبرى 10/197 ) .
وعن ابن عباس أنه{[13716]} قال : لما نزل قوله : ]والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة[ وذكر حديثا{[13717]} ، فيه طول ، وفيه : لم يلبثوا إلا قليلا حتى " جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم . قال : يا رسول الله لقد رأيت فلانا مع أهلي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقول يا هلال ؟ قال : والله يا رسول الله لقد رأيته ، وسمعته بأذني . قال : فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به ، ثم قال : أيُجلد هلال ، وتبطل شهادته في المسلمين ؟ " ( أحمد 1/238/ فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقول : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ؟ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيضرب هلال ، وتبطل شهادته في المسلمين ؟ وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته لأن توبته ، لو قبلت ، وكان كسائر الأشياء التي إذا أُتيب منها جازت شهادته ، لقال النبي : تبطل شهادته في المسلمين حتى يقرن إلى ذلك إلا أن يتوب .
وقد ذكرنا عن ابن عباس في قوله : ]إلا الذين تابوا[ أنه قال : فتاب الله عليهم من الفسق ، فأما الشهادة فلا تجوز .
وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا : توبته في ما بينه وبين ربه .
وفيه وجه آخر ؛ وهو القاذف إذا ضرب الحد ، فهو يقول ما لم يرجع : أنا صادق في نفسي ، ولم يلزمني الحد في ما بيني وبين ربي ، وإنما لزمني/362- ب/ في ذلك الحكم . فإذا تاب ، فهو يقول : كان الحد واجبا علي في ما بيني وبين ربي . وفي الحكم فلذلك أحرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك .
ووجه آخر ؛ وهو أن القاذف ، لم تبطل شهادته بقوله : فلان زان لأنه مدع بقوله هذا شيئا ، قد يجوز أن يكون حقا وإنما يصير قاذفا إذا عجز عن إقامة البينة ، وضربه الحاكم الجلد .
فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم ، لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم . فإذا حكم حاكم بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه . فإن قيل : يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن قال حاكم : قد أجزت شهادته في كل شيء فإنها{[13718]} تجوز ، لأن الحاكم ، قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول . قيل : قول الحاكم : قد أجزت شهادته ، ليس بحكم ، إنما هو فتوى .
والحكم إنما يكون في ما تقام له البينة ، أو يقع له الإقرار . فإن قيل : فما تقولون في رجل ، زنى ، فحده الحاكم : هل تجوز شهادته إن تاب . قيل : بلى .
فإن قيل{[13719]} : قد بطلت شهادته بحكم آخر ، وتوبته مقبولة بغير حكم الحاكم ، فما منع أن يكون القذف مثل ذلك ؟ وما الفرق ؟ قيل : الزنى فعل ظاهر ، يعرف به فسق الزنى ، وإن لم يحد ، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه لأنه شيء يدعيه على غيره ، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم . فلذلك افترقا .
ومن الدليل أيضا على أن شهادة القاذف ، إذا حد ، لا تقبل ، وإن تاب ، أنه إذا قال : تبت عن ( قذفي فلانا ){[13720]} أو : كنت في ذلك كاذبا{[13721]} . فلسنا ندري هل هو صادق في قوله : ( كنت كاذبا أو هو في قوله ){[13722]} ذلك ( كان ){[13723]} كاذبا لأن المقذوف ، إن كان في الحقيقة زانيا فقول القاذف : كنت في قذفي إياه كذبا ( كذب ){[13724]} منه ، وهو في ذلك آثم .
فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه من صدقه لم ( نجعل توبته ){[13725]} توبة ؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحاكم{[13726]} من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة ، وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول ، فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك منه توبة ، وقلنا : توبته في ما بينه وبين ربه ، لأن الله يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق ؟ ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من ظاهر عليه فلم نجعل توبته توبة في الحكم ، وقلنا : حالك الآن كحالك قبل ذلك .
ودليل آخر أنا قد علمنا كذبه بقول الله : ]فأولئك عند الله هم الكاذبون[ ( النور : 13 ) فإذا قال : كذبت في قذفي قلنا : لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة ، لم نعرفها ، فأنت في هذا الوقت كاذب ؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب ، فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك على ما ذكرنا .
على أن الشافعي يقول : لا ترجع الملاعنة على زوجها ، وإن تاب . فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها{[13727]} من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ]فاجلدوهم ثمانين جلدة[ إن كان الجلد مأخوذا من الجلود فجائز أن يستخرج منه حد الضرب ، وهو ألا يجاوز الجلود ، ولكن يضرب مقدار ما يتألم به ، ويتوجع ، ولا تمزق به الجلود ، ولا يخرقها ، ويستخرج منه التفريق في الأعضاء كلها والجوارح ، لأنه لو ضرب في مكان واحد لخرقه ، ومزقه ، سوى الرأس والوجه والمذاكير لما فيه من التأثير والمجاوزة .
فإن كان كذلك ففيه حجة لأبي حنيفة ، رحمه الله ، في قوله : إن الشهود إذا شهدوا على حد ، فضرب به الإمام ، فأصابه بالجراحات ، ثم رجعوا ، لا يضمنون ما أصابه من الجراحات لأنه لم يشهدوا على ضرب يجرح ، ويؤثر فيه ما أصابه . لذلك لم يضمنوا .
وقول عمر لأبي بكرة : تقبل شهادتك إن تبت ، فهو يحتمل أي تقبل روايتك عن رسول الله ومشاهدك التي شهدتها . قد ذكر أن الحكم والحد في الآية إنما جرى في قذف المحصنات دون المحصنين بقوله : ]والذين يرمون المحصنات[ الآية . لكن قذف المحصن وشتمه ، إن لم يكن في الشين وأعظم في الوزر ، فلا يكون دونه . فالذكر ، وإن جرى في المحصنات ، فأمكن وجود المعنى الذي به ، جرى ( في المحصنين ){[13728]} وهو ما قال : ]إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم[ ( النور : 23 ) وهو الإيمان والإحصان والعفة . لذلك لزم الحكم في المحصنين{[13729]} كما لزم في المحصنات .
وقد ذكرنا أيضا في ما تقدم ألا يُجلد من قذف مملوكة ، أو قذف كافرة ( أو كافرا ، أما قاذف المملوك فلقوله ){[13730]} ]والذين يرمون المحصنات[ وقد ذكرنا الدليل على أن المراد بالمحصنات الحرائر دون غيرهن . لذلك لم يجلد قاذف المملوك ، ( أو المملوكة ){[13731]} ولأنا لو أوجبنا جلده ثمانين فهو لو أنى بفعل الزنى حد خمسين ، فلا يجوز أن يوجب في عين ذلك الفعل ، لو أتى به . فسقط بما ذكرنا الجلد عن قاذف المملوك .
وأما الكافر والكافرة ( فقد سقط ) عن قاذفهما الحد لما ذكرنا من قوله : ]إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم[ شرط فيه الإيمان والإحصان والعفة . فإذا عد واحد مما ذكرنا لم يقم ( عليه ){[13732]} الحد ، ولأنا أوحينا ( حده حددناه ){[13733]} لقذف عدو الله .
ولا يجوز أن يجلد مسلم يقذف عدوا من أعداء الله مع ما ذكرنا من المسائل إجماع بين أهل العلم في ذلك ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.