الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من الفاسقين . ويدلّ عليه قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والشافعي رضي الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً ، غير أنه صرف الأبد إلى مدّة كونه قاذفاً ، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية .

وحق المستثنى عنده أن يكون مجروراً بدلاً من «هم » في { لَهُمْ } وحقه عند أبي حنيفة رضي الله عنه أن يكون منصوباً لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسقوهم أي : فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق ، إلاّ الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنّ الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين .

فإن قلت : الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع ، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبي حنيفة رضي الله عنه . كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام ؟ قلت : المسلمون لا يعبئون بسبِّ الكفار ؛ لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل ، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله ، فشدّد على القاذف من المسلمين ردعاً وكفاً عن إلحاق الشنار .

فإن قلت : هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حدّ القاذف ؟ قلت : لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحدّ ، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدّ . ويحسن من الأمام أن يحمل المقدوف على كظم الغيظ ويقول له : أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحدّ : فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله ، ولهذا لم يصحّ أن يصالح عنه بمال .

فإن قلت : هل يورث الحدّ ؟ قلت : عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يورث ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الحدّ لا يورث " ، وعند الشافعي رضي الله عنه يورث ، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحدّ سقط . وقيل : نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضي الله عنه حين تاب مما قال في عائشة رضي الله عنها .