فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

ثم بين الله سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال :

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي من بعد اقترافهم لذنب القذف { وَأَصْلَحُوا } أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر ذنوبهم ويرحمهم .

وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله ؟ وهي عدم قبول الشهادة ، والحكم عليهم بالفسق ، أم إلى الجملة الأخيرة ؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ وبعد إجماعهم أيضا على أن الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا ؟ فقال الجمهور : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق لأن سبب ردها هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة .

وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وابن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة : إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ولا تقبل شهادته أصلا .

وذهب الشافعي والضحاك إلى التفصيل فقالا : لا تقبل شهادته وإن تاب . إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان فحينئذ نقبل شهادته .

وقول الجمهور هو الحق لأن تخصيص التقييد بالجملة الآخرة ، دون ما قبلها مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب ، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قيدا لما قبلها ، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به ، ولهذا كان مجمعا عليه وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهر .

وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل ، بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفن ، والحق هو هذا ، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائد إلى جميع الجمل التي قبله وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال فإنه قد يكون ذلك لدليل ، كما وقع هنا من الإجماع واتفاق الأئمة الأربعة على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد ، فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع عن قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة .

قال أبو عبيد : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة وليس من رمي غيره بالزنا بأعظم جرما من مرتكب الزنا ، والزاني إذا تاب قبلت شهادته لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى ، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن ، منها قوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله } إلى قوله : { إلا الذين تابوا } ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع ، قال الزجاج : وليس القاذف بأشد جرما من الكافر فحقه إذا تاب وأًصلح أن تقبل شهادته قال وقوله : { أبدا } أي ما دام قاذفا كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ، فإن معناه ما دام كافرا انتهى .

وعن ابن عباس في الآية قال : تاب الله عليهم من الفسوق ، وأما الشهادة فلا تجوز وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك وعنه قال : توبتهم إكذابهم أنفسهم ، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم ، وعن ابن عباس أيضا قال : من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل .

واختلف العلماء في صورة توبة القاذف ، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة : أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه ، وأقيم عليه الحد بسببه ، وقالت فرقة منهم مالك وغيره : إن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله ويندم على ما فرط منه ويستغفر الله من ذلك ويعزم على ترك العود إلى مثله وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله ، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ولو كان كفرا فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى وحكى هذا الإجماع القرطبي .