التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

قوله : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } ذلك استثناء للتائبين من بعد القذف . فإن هم ندموا على فعلهم واستغفروا ربهم وأنابوا إليه ، وتركوا العود إلى مثل ما فعلوه من القذف فإن الله يستر عليهم ما فعلوه من ذنب .

على أن الاستثناء غير عامل في جلد القاذف بالإجماع . فإذا طلب المقذوف حقه في الحد من القاذف أجابه الحاكم لا محالة .

أما عمل الاستثناء في رد الشهادة من القاذف فهو مختلف فيه . فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن الشهادة من القاذف لا تقبل . فهي بذلك مردودة وإن تاب وإنما يزول فسقه فقط . وهو قول الحنفية وآخرين . وقال أكثر أهل العلم إن الاستثناء عامل في رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وزال فسقه . والأصل في هذه المسألة اختلافهم في الاستثناء إذا جاء عقيب جمل معطوفة هل يعود إلى جميعها أم إلى الجملة الأخيرة فقط{[3226]} .

ثمة أقوال ثلاثة للعلماء في ذلك :

القول الأول : إن الاستثناء يعود إلى جميع الجمل المتعاقبة بالواو . وهو قول الشافعية والمالكية والحنبلية وأهل الظاهر . وقال به أبو الحسن البصري من المعتزلة . فقد ذهب هؤلاء جميعا إلى أن الاستثناء المتصل بجمل من الكلام معطوف بعضها على بعض يجب رجوعه إلى جميع الجمل . فالآية هنا ، قد وقع الاستثناء فيها بعد ثلاث جمل . وهي : الأمر بالجلد . ثم النهي عن قبول الشهادة . ثم الإخبار بفسقهم . والاستثناء عائد إلى الجميع . وبذلك يرتفع رد الشهادة كما يرتفع التفسيق . ولا يرتفع الجلد فإنه حد .

وقد ورد التنصيص على وجوبه في الأخبار الصحيحة . واحتج هؤلاء بعدة أدلة منها ، القياس على الشرط ؛ فإن الشرط إذا تعقب جملا ؛ فإنه يعود على الكل فكذا الاستثناء . وقالوا أيضا : الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة وبذلك يؤثر الاستثناء في الجميع .

القول الثاني : إن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط . وهو قول الحنفية وقال به الرازي . وبذلك فإن الاستثناء يختص بالجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو . واحتجوا بأن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة مستيقن . أما رجوعه إلى ما قبلها من الجمل فهو محتمل مشكوك فيه فلا يثبت بالشك والاحتمال .

القول الثالث : التوقف . وهو مذهب الأشعري واختاره الآمدي والغزالي والباقلاني . فقد توقفوا لعدم العلم بمدلوله لغة{[3227]} .


[3226]:- أحكام القرآن لابن العربي جـ 3 ص 1324، 1325 وفتح القدير جـ 3 ص 958 وتفسير القرطبي جـ 12 ص 180.
[3227]:- المنخول للغزالي ص 160 والإحكام للآمدي جـ2 ص 133 والمحصول للرازي جـ1 ص 415 وإرشاد الفحول للشوكاني ص 151 والمعتمد جـ1 ص 245 لأبي الحسين البصري، وإحكام الفصول للباجي ص 189.