فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

ثم بين سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال { إِلاَّ الذين تَابُواْ } وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء ، لأنه من موجب ، وقيل : يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل ، ومعنى التوبة قد تقدّم تحقيقه ، ومعنى { مِن بَعْدِ ذلك } : من بعد اقترافهم لذنب القذف ، ومعنى { وَأَصْلَحُواْ } : إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ، ومداركة ذلك بالتوبة ، والانقياد للحدّ .

وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله ؟ وهي : جملة عدم قبول الشهادة ، وجملة الحكم عليهم بالفسق ، أم إلى الجملة الأخيرة ؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ ، وبعد إجماعهم أيضاً على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق ، فحلّ الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا ؟ ، فقال الجمهور : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وزال عنه الفسق ، لأن سبب ردّها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف ، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة . وقال القاضي شريح ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة : إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق ، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة ، فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ، ولا تقبل شهادته أبداً . وذهب الشعبي ، والضحاك إلى التفصيل فقالا : لا تقبل شهادته ، وإن تاب إلاّ أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان ، فحينئذٍ تقبل شهادته . وقول الجمهور هو الحق ، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب ، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لما قبلها ، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به ، ولهذا كان مجمعاً عليه ، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهراً . وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفنّ ، والحق هو هذا ، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائداً إلى جميع الجمل التي قبله ، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ، ولا يصلح للاستدلال ، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد . ومما يؤيد ما قررناه ويقوّيه أن المانع من قبول الشهادة ، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال ، فلم يبق ما يوجب الردّ للشهادة .

واختلف العلماء في صورة توبة القاذف ، فقال عمر ابن الخطاب ، والشعبي ، والضحاك ، وأهل المدينة : إن توبته لا تكون إلاّ بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه ، وأقيم عليه الحدّ بسبببه . وقالت فرقة منهم مالك ، وغيره : إن توبته تكون بأن يحسن حاله ، ويصلح عمله ، ويندم على ما فرط منه ، ويستغفر الله من ذلك ، ويعزم على ترك العود إلى مثله . وإن لم يكذب نفسه ، ولا رجع عن قوله . ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة ، فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد .

وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ، ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي . قال أبو عبيدة : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة ، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا ، والزاني إذا تاب قبلت شهادته ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى ، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله : { إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله } إلى قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } [ المائدة : 33 34 ] .

ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع . قال الزجاج : وليس القاذف بأشدّ جرماً من الكافر ، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته ، قال : وقوله { أَبَدًا } أي : ما دام قاذفاً ، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبداً فإن معناه : ما دام كافراً . انتهى . وجملة { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخدة للقاذف بعد التوبة ، وصيرورته مغفوراً له ، مرحوماً من الرحمن الرحيم ، غير فاسق ، ولا مردود الشهادة ، ولا مرفوع العدالة .

/خ10