السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

واختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، وحكم هذا الاستثناء المذكور في قوله : { إلا الذين تابوا } أي : رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره ، وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا { من بعد ذلك } أي : الأمر الذي أوجب إبعادهم ، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب وصلح حاله كما قال تعالى : { وأصلحوا } أي : بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال ، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطبائع { فإن الله } أي : الذي له صفات الكمال { غفور } أي : ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه { رحيم } أي : يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة ، وقبلت شهادته سواء قبل الحدّ وبعده وزال عنه اسم الفسق ، وقالوا : هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة ، وإلى الفسق ، ويروى ذلك عن ابن عمرو وابن عباس ، وجمع من الصحابة وبه قال مالك والشافعي ، وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء رجع إلى قوله : { وأولئك هم الفاسقون } ، ويروى ذلك عن النخعي وشريح ، وبه قال أصحاب الرأي قالوا : بنفس القذف لا تردّ شهادته ما لم يحد ؛ قال الشافعي : هو قبل أن يحدّ شر منه حين يحدّ ؛ لأن الحدود كفارات ، فكيف يرد بها في أحسن حاليه ، وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة .

فإن قيل : إذا قلتم بالأول فما معنى قوله تعالى : { أبداً } ؟ أجيب : بأن معنى أبداً ما دام مصراً على القذف ؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ؛ يراد بذلك ما دام على كفره ، فإذا أسلم قبلت شهادته .

تنبيهان : الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين أو أربع كالزنا ؟ فيه قولان : أصحهما أنه يثبت برجلين بخلاف فعل الزنا ؛ لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه ، وإذا شهد على فعل الزنا يجب أن يذكر الزاني ومن زنا بها ؛ لأنه قد يراه على جارية لأبيه فيظنه زناً يوجب الحد ، وأن يقول في شهادته : رأيت ذكره يدخل في فرجها ، وإن لم يقل دخول الميل في المكحلة لكن قوله ذلك أولى ، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يقبلوا لأنهم ربما يرون المفاخذة زناً ، ويشترط أيضاً أن يفسر في إقراره كالشهود ويصح رجوعه عن الإقرار ، ولو في أثناء الحدّ كما مرَّ ، ولا فرق في قبول الشهادة بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين كما قاله الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حدّ القذف ، ولو شهد على الزنا أقل من أربعة أو أربعة وفيهم الزوج لم يثبت الزنا وعليهم الحدّ ؛ لأن شهادة الزوج لا تقبل في حق زوجته ؛ قال ابن الرفعة في الكفاية : لأمرين أحدهما : أن الزنا تعرض لمحل حق الزوج ، فإنّ الزاني يستمتع بالمنافع المستحقة له فشهادته في حقها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له ، فلم تسمع كما إذا شهد أنه جنى على عبده ، والثاني : أنّ من شهد بزنا زوجته فنفس شهادته دال على إظهار العداوة ؛ لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال الغير عليه وعلى ولده ، وهو أبلغ من مؤلم الضرب وفاحش السب ، ولو قذف رجل وجاء بأربعة فساق شهدوا على المقذوف بالزنا لم يحدّوا ؛ لأن شرائط الشهادة بالزنا قد وجدت عند القاضي إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحدّ عن المشهود عليه ، فكذلك أوجبنا اعتبارها في نفي الحدّ عنهم .