ثم حكى - سبحانه - قولا آخر من أقوالهم القبيحة فقال : { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل . . } .
والقائل هو عبد الله بن سلول ، ولكن القرآن نسب القول إليهم جميعا لأنهم رضوا بقوله ، ووافقوه عليه .
وجاء الأسلوب بصيغة المضارع ، لاستحضار هذه المقالة السيئة ، وتلك الصورة البغيضة لهؤلاء القوم .
والأعز : هو القوى لعزته ، بمعنى أنه يغلب غيره ، والأذل هو الذى يغلبه غيره لذلته وضعفه .
وأراد عبد الله بن أبى بالأعز ، نفسه ، وشيعته من المنافقين ، وأراد بالأذل ، الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين .
والمراد بالرجوع فى قوله { لَئِن رَّجَعْنَآ } الرجوع إلى المدينة بعد انتهاء غزوة بنى المصطلق .
أى : يقول هؤلاء المنافقون - على سبيل التبجح وسوء الأدب - لئن رجعنا إلى المدينة بعد انتهاء هذه الغزوة ، ليخرجن الفريق الأعز منا الفريق الأذل من المدينة ، حتى لا يبقى فيها أحد من هذا الفريق الأذل ، بل تصبح خالية الوجه لنا . وقد رد الله - تعالى - على مقالتهم الباطلة هذه بما يخرس ألسنتهم فقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } .
أى : لقد كذب المنافقون فيما قالوا ، فإن لله - تعالى - وحده العزة المطلقة والقوة التى لا تقهر ، وهى - أيضا - لمن أفاضها عليه من رسله ومن المؤمنين الصادقين ، وهى بعيدة كل البعد عن أولئك المنافقين .
وقال - سبحانه - : { وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } بإعادة حرف الجر ، لتأكيد أمر هذه العزة ، وأنها متمكنة منهم لأنها مستمدة من إيمانهم بالله - تعالى - وحده .
وقوله - تعالى - : { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } استدرك قصد به تجهيل هؤلاء المنافقين ، أى : ليست العزة إلا لله - تعالى - ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ، ولا يعرفونه لاستيلاء الجهل والغباء عليهم ، لأنهم لو كانت لهم عقول تعقل ، لعلموا أن العزة لدعوة الحق ، بدليل انتشارها فى الآفاق يوما بعد يوم ، وانتصار أصحابها على أعدائهم حينا بعد حين ، وازدياد سلطانهم وقتا بعد وقت .
قال صاحب الكشاف قوله - تعالى - : { وَلِلَّهِ العزة . . } أى : الغلبة والقوة لله - تعالى - ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ، ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أن المذلة والهوان ، للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين .
وعن الحسن بن على - رضى الله عنهما - أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
وقال الإمام الرازى : العزة غير الكبر ، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه - لغير الله - فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه ، وإكرامها عن أن يضعها فى غير موضعها اللائق بها ، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه ، وإنزالها فوق منزلتها ، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة ، كاشتباه التواضع بالضعة ، فالتواضع محمود ، والضعة مذمومة ، والكبر مذموم والعزة محمودة .
هذا ، وإن المتدبر لهذه الآيات الكريمة وفى أسباب نزولها ، ليرى فيها ألوانا من العظات والعبر .
يرى فيها التصرف الحكيم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ أنه - صلى الله عليه وسلم - بمجرد أن بلغته تلك الأقوال التى قالها عبد الله بن أبى ، لكى يثير الفتنة بين المسلمين ، ما كان منه إلا أن أمر عمر ابن الخطاب ، بأن ينادى فى الناس بالرحيل . . . لكى يشغل الناس عما تفوه به ابن أبى ، حتى لا يقع بينهم ما لا تحمد عقباه .
كما يرى كيف أنه - صلى الله عليه وسلم - عالج تلك الأحداث بحكمة حكيمة فعندما أشار عليه عمر - رضى الله عنه - بقتل بن أبى . . . ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قال له : يا عمر ، كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؟ ! وأبى - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بقتله بل ترك لعشيريته من الأنصار تأديبه وتوبيخه .
ولقد بلغ الحال بابنه عبد الله - رضى الله عنه - وهو أقرب الناس إليه ، أن يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخولها .
كما يرى المتدبر لهذه الآيات ، والأحداث التى نزلت فيها ، أن النفوس إذا جحدت الحق ، واستولت عليها الأحقاد ، واستحوذ عليها الشيطان . . أبت أن تسلك الطريق المستقيم ، مهما كانت معالمه واضحة أمامها . . .
فعبد الله بن أبى وجماعته ، وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحارب لها ولأتباعها ، وسلكوا فى إذاعة السوء حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحول أصحابه كل مسلك . . . مع أن آيات القرآن الكريم ، كانت تتلى على مسامعهم صباح مساء ، ومع أن إرشادات الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تصل إليهم يوما بعد يوم ، ومع أن المؤمنين الصادقين كانوا لا يكفون عن نصحهم ووعظهم .
كما نرى أن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب ، ضحى الإنسان من أجله بكل شىء . . . فعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول ، يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله بلغنى أنك تريد قتل أبى ، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه . .
ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه ، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدخولها ، وحتى يقول : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز ، وأنه هو - أى عبد الله ابن أبى - هو الذليل .
( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) . .
وقد رأينا كيف حقق ذلك عيد الله بن عيد الله بن أبي ! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز !
( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه ، ويضفي عليهم من عزته ، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول : ها نحن أولاء ! هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز !
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .
( ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل ?
القول في تأويل قوله تعالى : { يَقُولُونَ لَئِن رّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْهَا الأذَلّ وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلََكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم قبل لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ فيها ، ويعني بالأعزّ : الأشدّ والأقوى ، قال الله جلّ ثناؤه : ولِلّهِ العِزّةُ يعني : الشدّة والقوّة وَلِرَسُولِهِ ولِلْمُوءْمِنِينَ بالله وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك .
وذُكر أن سبب قيل ذلك عبدُ الله بن أُبي كان من أجل أن رجلاً من المهاجرين كَسَعَ رجلا من الأنصار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا زَمْعة ، عن عمرو ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، قال : إن الأنصار كانوا أكثر من المهاجرين ، ثم إن المهاجرين كثروا فخرجوا في غزوة لهم ، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، قال : فكان بينهما قتال إلى أن صرخ : يا معشر الأنصار ، وصرخ المهاجر : يا معشر المهاجرين قال : فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما لَكُمْ وَلِدعْوَةِ الجاهِلِيّةِ » ؟ فقالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دَعُوها فإنّها مُنْتِنَةٌ » ، قال : فقال عبد الله بن أُبي ابن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، فقال عمر : يا رسول الله دعني فأقتله ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَتَحَدّثُ النّاسُ أنّ رَسُولَ اللّهِ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ . . . إلى ولِلّهِ العِزّةُ ولِرَسُولِهِ قال : قال ذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول الأنصاري رأس المنافقين ، وناس معه من المنافقين .
حدثني أحمد بن منصور الرمادي قال : حدثنا إبراهيم بن الحكم قال : ثني أبي عن عكرمة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي ابن سلول كان يقال له حباب ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ، فقال : يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله ، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَقْتُلْ أباكَ عَبْدَ اللّهِ » ، ثم جاء أيضا فقال : يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله ، فذرني حتى أقتله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَقْتُلْ أباكَ » ، فقال : يا رسول الله فتوضأ حتى أسقيه من وضوئك لعلّ قلبه أن يلين ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ، فذهب به إلى أبيه فسقاه ، ثم قال له : هل تدري ما سقيتك ؟ فقال له والده نعم ، سقيتني بول أمك ، فقال له ابنه : لا والله ، ولكن سقيتك وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عكرمة : وكان عبد الله بن أُبي عظيم الشأن فيهم . وفيهم أنزلت هذه الاَية في المنافقين : هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا وهو الذي قال : لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قال : فلما بلغوا المدينة ، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ، أخذ ابنه السيف ، ثم قال لوالده : أنت تزعم «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ » ، فوالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار برجله وذلك في أهل اليمن شديد فنادى المهاجري يا للمهاجرين ، ونادى الأنصاري يا للأنصار قال : والمهاجرون يومئذ أكثر من الأنصار ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «دَعُوها فإنّها مُنْتِنَةٌ » ، فقال عبد الله بن أُبي ابن سلول ، لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ » .
حدثني عمران بن بكار الكلاعيّ ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عليّ بن سليمان ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، أن زيد بن أرقم ، أخبره أن عبد الله بن أُبي ابن سلول قال لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا وقال لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قال : فحدثني زيد أنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول عبد الله بن أُبي ، قال : فجاء فحلف عبد الله بن أُبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك قال أبو إسحاق : فقال لي زيد ، فجلست في بيتي ، حتى أنزله الله تصديق زيد ، وتكذيب عبد الله في إذا جاءك المنافقون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَة لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قرأ الاَية كلها إلى لا يَعْلَمُونَ قال : قد قالها منافق عظيم النفاق في رجلين اقتتلا ، أحدهما غفاريّ ، والاَخر جُهَنِيّ ، فظهر الغفاريّ على الجُهنيّ ، وكان بين جُهينة والأنصار حلف ، فقال رجل من المنافقين وهو ابن أُبي : يا بني الأوس ، يا بني الخزرج ، عليكم صاحبكم وحليفكم ، ثم قال : والله ما مثلنا ومَثَل محمد إلا كما قال القائل : «سَمّن كلبك يأكلك » ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، فسعى بها بعضهم إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا نبيّ الله مُر معاذ بن جبل أن يضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «لا يتحدّثُ النّاسُ أنّ مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ » . ذُكر لنا أنه كان أُكْثِر على رجل من المنافقين عنده ، فقال : هل يصلي ؟ فقال : نعم ولا خير في صلاته ، فقال : نُهيت عن المصلين ، نُهيت عن المصلين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : اقتتل رجلان ، أحدهما من جُهينة ، والاَخر من غفار ، وكانت جهينة حليف الأنصار ، فظهر عليه الغفاريّ ، فقال رجل منهم عظيم النفاق : عليكم صاحبكم ، عليكم صاحبكم ، فوالله ما مَثُلنا ومَثَل محمد إلا كما قال القائل : «سمّن كلبك يأكلك » ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وهم في سفر ، فجاء رجل ممن سمعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ذلك ، فقال عمر : مُر معاذا يضرب عنقه ، فقال : «وَاللّه لا يَتَحَدّثُ النّاسُ أنّ مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ » ، فنزلت فيهم : هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ .
وقوله : لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن أن غلاما جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني سمعت عبد الله بن أُبي يقول كذا وكذا قال : «فَلعَلّكَ غَضِبْتَ عَلَيْهِ ؟ » قال : لا والله لقد سمعته يقوله قال : «فَلَعَلّكَ أخْطأَ سَمْعُكَ ؟ » قال : لا والله يا نبيّ الله لقد سمعته يقوله قال : فَلَعَلّهُ شُبّهَ عَلَيْكَ » ، قال : لا والله ، قال : فأنزل الله تصديقا للغلام : لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ ، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام ، فقال : «وَفَتْ أُذُنُكَ ، وَفَتْ أُذُنُكَ يا غُلامُ » .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله لَيُخْرِجَن الأعَزّ مِنْها الأذَل قال : كان المنافقون يسمون المهاجرين : الجلابيب وقال : قال ابن أُبي : قد أمرتكم في هؤلاء الجلابيب أمري ، قال : هذا بين أمَجٍ وعُسْفان على الكديد تنازعوا على الماء ، وكان المهاجرون قد غلبوا على الماء قال : وقال ابن أُبي أيضا : أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ لقد قلت لكم : لا تنفقوا عليهم ، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون ، ويخرجوا ويهربوا فأتى عمر بن الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أُبي ؟ قال : «وما ذاك ؟ » فأخبره وقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ، قال : «إذا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِب » قال عمر : فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين ، فمرّ به سعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة فيقتلانه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي أكْرَهُ أنْ يَتَحَدّثَ النّاسُ أنّ مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ ، ادْعُوا لي عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْن أُبي » ، فدعاه ، فقال : «ألا تَرَى ما يَقُولُ أبُوكَ ؟ » قال : وما يقول بأبي أنت وأمي ؟ قال : «يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ » فقال : فقد صدق والله يا رسول الله ، أنت والله الأعزّ وهو الأذلّ ، أما والله لقد قَدِمت المدينة يا رسول الله ، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبرّ مني ، ولئن كان يرضى الله ورسوله أن آتيهما برأسه لاَتِيَنّها به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا » فلما قَدِموا المدينة ، قام عبد الله بن عبد الله بن أُبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال : أنت القائل : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ، أما والله لتعرفنّ العزّة لك أو لرسول الله ، والله لا يأويك ظله ، ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله فقال : يا للخزرج ابني يمنعني بيتي يا للخزرج ابني يمنعني بيتي فقال : والله لا تأويه أبدا إلا بإذن منه فاجتمع إليه رجال فكلموه ، فقال : والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله ، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال : «اذْهَبُوا إلَيْهِ ، فَقُولُوا له خَلّهِ ومَسْكَنَه » فأتوه ، فقال : أما إذا جاء إمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فنعم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة وعليّ بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكر ، وعن محمد بن يحيى بن حبان ، قال : كلّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق ، قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس فاقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقُتل من قتل منهم ، ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، فأفاءهم الله عليه ، وقد أصيب رجل من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر ، يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدوّ ، فقتله خطأ ، فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجاه بن سعيد ، يقود له فرسه ، فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهنيّ : يا معشر الأنصار . وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فغضب عبد الله بن أُبي ابن سلول ، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حديث السنّ ، فقال : قد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : «سمّن كلبك يأكلك » ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ثم أقبل على من حضر من قومه ، فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه ، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله مُر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَكَيْفَ يا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاس أن مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ ، لا ، وَلَكِنْ أَذّنْ بالرّحِيلِ » ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس ، وقد مشى عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به وكان عبد الله بن أُبي في قومه شريفا عظيما ، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه من الأنصار : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدبا على عبد الله بن أُبي ، ودفعا عنه فلما استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه ثم قال : يا رسول الله لقد رُحتَ في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو ما بَلَغَكَ ما قالَ صَاحِبُكُمْ ؟ » قال : فأيّ صاحب يا رسول الله ؟ قال : «عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبيّ » ، قال : وما قال ؟ قال : «زَعمَ أنّهُ إنْ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ أخْرَجَ الأعَزّ مِنْها الأذَل » قال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال : يا رسول الله ارفق به ، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكا . ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض وقعوا نياما ، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أُبي . ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فُويق النقيع ، يقال له نقعاء فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبّت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لاَ تَخافُوا فإنّما هَبّتْ لمَوْتِ عَظِيم مِنْ عُظُماءِ الكُفّارِ » فلما قَدِموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود ، وكهفا للمنافقين قد مات ذلك اليوم ، فنزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أُبي ابن سلول ، ومن كان معه على مثل أمره ، فقال : إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد فقال : «هَذَا الّذِي أوْفى اللّهَ بأُذُنه » ، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبي الذي كان من أبيه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلاً ، فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيره فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس فأقتلَه ، فأقتل مؤمنا بكافر ، فأدخلَ النارَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَلْ نَرْفُقْ بِهِ ونُحسِنْ صُحْبَتَهُ ما بَقِيَ مَعَنا » ، وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم «كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ أما وَاللّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أمَرْتَنِي بقَتْلِهِ لأَرْعَدَتْ لَهُ آنَفٌ ، لَوْ أمَرْتَها اليَوْمَ بقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ » قال : فقال عمر : قد والله علمت لأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم قبل" لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ "فيها، ويعني بالأعزّ: الأشدّ والأقوى، قال الله جلّ ثناؤه: "ولِلّهِ العِزّةُ" يعني: الشدّة والقوّة "وَلِرَسُولِهِ ولِلْمُؤمِنِينَ بالله وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: الأغلب الأقهر على مثال قوله تعالى: {وعزني في الخطاب} [ص: 23] أي غلبني في الخصومة.
والثاني: الأقوى والأشد على مثال قوله تعالى: {أعزة على الكافرين} (المائدة: 54). والثالث: الأعلى والأجل، وكذلك قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}. فإن كان على الأعلى والأجل فذلك أن المؤمنين أعلى وأجل لأنهم اتبعوا الحكمة بالحجج، والكفار اتبعوا أهواءهم. وإن كان على الأغلب والأقهر فذلك للمؤمنين بالغلبة والنصرة على أعدائهم. وإن كان على القوة والشدة فقد كان ذلك للمؤمنين، لأنه لو لم يوجد ذلك للمؤمنين لم يكن أهل النفاق يظهرون الوفاق للمؤمنين. ولكنهم لما رأوا القوة والشدة للمؤمنين مرة وللكفار أخرى أظهروا الموافقة للفريقين جميعا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فعزّة اللّه سبحانه قهر مَن دونه، وعزّة رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها، وعزّة المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون...
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر عنهم فقال: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز) يعنون نفوسهم (منها الأذل) يعنون رسول الله والمؤمنين...
(ولكن المنافقين لا يعلمون) ذلك فيظنون أن العزة لهم، وذلك بجهلهم بصفات الله وما يستحقه أولياؤه وما يعمل بهم. والأعز: الأقدر على منع غيره، وأصل الصفة المنع، فلذلك لم يكن أحد أعز من الله ولا أذل من المنافق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما وقع لهم الغَلَطُ في تعيين الأعزِّ والأذَلِّ؛ فتوَهَّموا أنَّ الأعزَّ هم المنافقون، والأذلَّ هم المسلمون، ولكن الأمر بالعكس، فلا جَرَمَ غَلَبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأُذِلَّ المنافقون بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}: لله عِزُّ الإلهية، وللرسول عِزُّ النبوَّة، وللمؤمنين عِزُّ الولاية. وجميعُ ذلك لله؛ فعِزُّه القديم صِفَتُه، وعِزُّ الرسولِ وعِزُّ المؤمنين له فِعْلاً ومِنَّةً وفَضْلاً، فإذاً لله العِزَّةُ جميعاً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلِلَّهِ العزة} الغلبة والقوّة، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين...
قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية. كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة، ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر، قال تعالى: {ذلكم بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق} وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر، فإن قيل: قال في الآية الأولى: {لا يفقهون} وفي الأخرى {لا يعلمون} فما الحكمة فيه؟ فنقول: ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم، ولا يفقهون من فقه يفقه، كعلم يعلم، ومن فقه يفقه: كعظم يعظم، والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل على عدم فقههم بقوله تعالى: {يقولون} أي يوجدون هذا القول ويجددونه مؤكدين له لاستشعارهم بأن أكثر قومه ينكره: {لئن رجعنا} أي نحن أيتها العصابة المنافقة من غزاتنا هذه -التي قد رأوا فيها من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعجز الوصف وهي غزوة بني المصطلق حي من هذيل بالمريسيع وهو ماء من مياههم من ناحية قديد إلى الساحل وفيها تكلم ابن أبي بالإفك وأشاعه- {إلى المدينة} و دلوا على تصميمهم على عدم المساكنة بقولهم: {ليخرجن الأعز} يعنون أنفسهم {منها الأذل} وهم كاذبون في هذا، لكنهم تصوروا لشدة غباوتهم أن العزة لهم وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين {ولله} أي والحال أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن للملك الأعلى الذي له وحده عز الإلهية {العزة} كلها، فهو قهار لمن دونه وكل ما عداه دونه. ولما حصر العزة بما دل على ذلك من تقديم المعمول، أخبر أنه يعطي منها من أراد وأحقهم بذلك من أطاعه فترجم ذلك بقوله: {ولرسوله} لأن عزته من عزته بعز النبوة والرسالة وإظهار الله دينه على الدين كله، وكذلك أيضاً أن العزة لمن أطاع الرسول بقوله: {وللمؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً لأن عزتهم بعزة الولاية، ونصر الله إياهم عزة لرسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن تعزز بالله لم يلحقه ذل... {ولكن المنافقين} أي الذين استحكم فيهم مرض القلوب. ولما كانت الدلائل على عزة الله لا تخفى على أحد لما تحقق من قهره للملوك وغيرهم بالموت الذي لم يقدر أحد على الخلاص منه ولا المنازعة فيه، ومن المنع من أكثر المرادات، ومن نصر الرسول وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك، وبأنه سبحانه ما قال شيئاً إلا تم ولا قالت الرسل شيئاً إلا صدقهم فيه، ختم الآية بالعلم الأعم من الفقه فقال: {لا يعلمون} أي لا لأحد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان، فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)..
وقد رأينا كيف حقق ذلك عيد الله بن عيد الله بن أبي! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز!
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون)..
ويضم الله -سبحانه- رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله -سبحانه- رسوله والمؤمنين معه إلى جواره. ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء. وهذا هو الصف العزيز!
وصدق الله. فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن. العزة المستمدة من عزته تعالى. العزة التي لا تهون ولا تهن، ولا تنحني ولا تلين. ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان. فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة..
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأراد ب {الأعز} فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عدداً من المهاجرين فأراد لَيُخْرجن الأنصار من مدينتهم مَن جاءها من المهاجرين. وقد أبطل الله كلامهم بقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجَب في علم الجدل وهي مما يسمّى بالتسليم الجَدلي في علم آداب البحث. والمعنى: إن كان الأعزّ يخرج الأذلّ فإن المؤمنين هم الفريق الأعزّ. وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسولَه صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة، وعزّة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يُقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يُخرج منها أنتم يا أهل النفاق. وتقديم المسند على المسند إليه في {ولله العزة} لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون. وإعادة اللام في قوله: {ولرسوله} مع أن حرف العطف مُغن عنها لتأكيد عزّة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزّة الله ووعده إياه، وإعادة اللام أيضاً في قوله: {وللمؤمنين} للتأكيد أيضاً إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة. والقول في الاستدراك بقوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون} نظير القول آنفاً في قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} [المنافقون: 7]. وعدل عن الإِضمار في قوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون}. وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل. وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلاً بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإِقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوماً فيوماً وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من عزّة قبائل العرب الذين يَسقطون بأيدي المسلمين كلما غزوهم من يوم بدر فما بعده...