الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (8)

7

وأخرج سعيد بن منصور والبخاري ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبدالله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ، قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق ، فكسع رجل من المنافقين رجلاً من الأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال دعوى الجاهلية ؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعوها فإنها منتنة » فسمع ذلك عبدالله بن أبيّ ، فقال : أو قد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه » . زاد الترمذي ، فقال له ابنه عبدالله : والله لا تنقلب حتى تَقِرَّ أنك الذليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل .

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال : كان بين غلام من الأنصار وغلام من بني غفار في الطريق كلام ، فقال عبدالله بن أبيّ : هنيئاً ، لكم بأس ، هنيئاً جمعتم سوّاق الحجيج من مزينة وجهينة فغلبوكم على ثماركم ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال : لما حضر عبدالله بن أبيّ الموت قال ابن عباس رضي الله عنهما : فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى بينهما كلام ، فقال له عبدالله بن أبيّ : قد أفقه ما تقول ، ولكن منَّ عليَّ اليوم وكفّنّي بقميصك هذا وصلّ عليّ . قال ابن عباس رضي الله عنهما : فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقميصه ، وصلى عليه والله أعلم أي صلاة كانت ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يخدع إنساناً قط ، غير أنه قال يوم الحديبية كلمة حسنة ، فسئل عكرمة رضي الله عنه ما هذه الكلمة ؟ قال : قالت له قريش : يا أبا حباب إنا قد منعنا محمداً طواف هذا البيت ، ولكنا نأذن لك ، فقال : لا لي في رسول الله أسوة حسنة . قال : فلما بلغوا المدينة أخذ ابنه السيف ثم قال لوالده : أنت تزعم لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، والله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأخرج الحميدي في مسنده عن أبي هارون المدني قال : قال عبدالله بن عبدالله بن أبيّ لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل .

وأخرج الطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنه : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق قام عبدالله بن عبدالله بن أبيّ فسلّ على أبيه السيف ، وقال : والله عليّ أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل . فقال : ويلك محمد الأعز وأنا الأذل . فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته ، وشكرها له .

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : لما قدموا المدينة سلّ عبدالله بن عبدالله بن أبيّ على أبيه السيف وقال : لأضربنك أو تقول : أنا الأذل ومحمد الأعز . فلم يبرح حتى قال ذلك .

وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة بن الزبير رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق لما أتوا المنزل كان بين غلمان من المهاجرين وغلمان من الأنصار ، فقال غلمان من المهاجرين : يا للمهاجرين ، وقال غلمان من الأنصار : يا للأنصار ، فبلغ ذلك عبدالله بن أبيّ بن سلول فقال : أما والله لو أنهم لم ينفقوا عليهم انفضوا من حوله ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالرحيل ، فأدرك ركباً من بني عبد الأشهل في المسير ، فقال لهم : «ألم تعلموا ما قال المنافق عبدالله بن أبي ؟ » قالوا : وماذا قال : يا رسول الله ؟ قال : «قال أما والله لو لم تنفقوا عليهم لانفضوا من حوله ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » قالوا : صدق يا رسول الله ، فأنت والله الأعز العزيز وهو الذليل .

وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن سيرين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معسكراً وأن رجلاً من قريش كان بينه وبين رجل من الأنصار كلام حتى اشتد الأمر بينهما ، فبلغ ذلك عبدالله بن أبيّ ، فخرج فنادى : غلبني على قومي من لا قوم له ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخذ سيفه ثم خرج عامداً ليضربه ، فذكر هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ] فرجع حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما لك يا عمر ؟ قال : العجب من ذلك المنافق ، يقول غلبني على قومي من لا قوم له ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال النبي صلى الله عليه وسلم : قم فناد في الناس يرتحلوا ، فارتحلوا فساروا حتى إذا كان بينهم وبين المدينة مسيرة ليلة ، فعجل عبدالله بن عبدالله بن أبيّ حتى أناخ بجامع طرق المدينة ، ودخل الناس حتى جاء أبوه عبدالله بن أبيّ فقال : وراءك . فقال : ما لك ويلك ؟ قال : والله لا تدخلها أبداً إلا أن يأذن رسول الله ، وليعلمن اليوم من الأعز من الأذل . فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه . فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خلِّ عنه حتى يدخل ففعل ، فلم يلبثوا إلا أياماً قلائل حتى اشتكى عبدالله فاشتد وجعه فقال لابنه عبدالله : يا بني ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعه فإنك إذ أنت طلبت ذلك إليه فعل . ففعل ابنه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا رسول إن عبدالله بن أبيّ شديد الوجع ، وقد طلب إليّ أن آتيك فتأتيه فإنه قد اشتاق إلى لقائك ، فأخذ نعليه فقام ، وقام معه نفر من أصحابه حتى دخلوا عليه ، فقال لأهله حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم : أجلسوني ، فأجلسوه فبكى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجزعاً يا عدو الله الآن ؟ فقال : يا رسول الله إني لم أدعك لتؤنبني ، ولكن دعوتك لترحمني ، فاغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفني في ثلاثة أثواب من ثيابك ، وتمشي مع جنازتي ، وتصلي عليّ . ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية بعد { ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } [ التوبة : 84 ] .