السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (8)

{ يقولون } أي : يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره { لئن رجعنا } أي : أيتها العصابة المنافقة { إلى المدينة } أي : من غزاتنا هذه ، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل { ليخرجنّ الأعز } يعنون أنفسهم { منها } أي : المدينة { الأذل } يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم ، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين { وله } أي : والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده { العزة } أي : الغلبة كلها { ولرسوله } لأنّ عزتّه من عزته { وللمؤمنين } فعزة الله قهره من دونه ، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم { ولكن المنافقين } أي : الذين استحكم فيهم مرض القلوب { لا يعلمون } أي : لا يوجد لهم علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف .

روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته ، وقال : أنت والله الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز . ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ، وقال «إن حباباً اسم شيطان » وكان مخلصاً ، وقال : وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته . وروي أنه قال : لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك ، فقال : ويحك أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، فلما رأى منه الجدّ ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً » .

فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى : { لا يفقهون } وختم الثانية بقوله تعالى : { لا يعلمون } ؟ .

أجيب : بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثانية حماقتهم وجهلهم . ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم ، أو من فقه يفقه كعظم يعظم ، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف ، والثاني لا بالتكلف ، فالأول علاجي ، والثاني مزاجي .