فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (8)

ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال : { يقولون : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وعنى بالأعز نفسه ومن معه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ، والمراد بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة ، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل فردا من أفرادهم وهو ابن أبيّ لكونه رئيسهم ، وصاحب أمرهم ، وهم راضون بما يقوله السامعون له مطيعون .

اخرج البخاري ومسلم وغيرهما .

" عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ، قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاري : يا للأنصار ، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوة الجاهلية ؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها منتنة ، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ فقال : أوقد فعلوها ؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله : والله لا تنقلب حتى تقرَّ أنك الذليل ورسول الله العزيز ففعل " ( {[1580]} ) .

وكانت تلك الغزوة في السنة الرابعة ، وقيل في السادسة ، ثم رد الله سبحانه على قائل المقالة فقال :

{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } الجملة حالية أي قالوا ما ذكر ، والحال أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن القوة والغلبة لله وحده ، ولمن أفاضها عليه من رسله ، وصالحي عباده ، وعزة الله قهره وغلبته لأعدائه ، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم ، عن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه ؟ وعن الحسن بن علي أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، قال : ليس بتيه ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين ، فاجعل العزة للعادلين من عبادك ، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين .

{ ولكن المنافقين لا يعلمون } بما فيه النفع فيفعلونه ، وبما فيه الضر فيجتنبونه ، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ، ومزيد حيرتهم ، والطبع على قلوبهم ، ختم هذه الآية بلا يعلمون ، وما قبلها بلا يفقهون . لأن الأول متصل بقوله : { ولله خزائن السموات والأرض } ، وفي معرفتها غموض يحتاج إلى فطنة وفقه ، فناسب نفي الفقه عنهم ، والثاني متصل بقوله : { ولله العزة } الخ وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم فناسب نفي العلم عنهم ، فالمعنى لا يعلمون أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه ، قال الكرخي : والحاصل أنه لما أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة أثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم ، وهو الله ورسوله والمؤمنون .

وفي شرح جمع الجوامع : ومن قوادح العلة القول بالموجب بفتح الجيم ، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع بأن يظهر المعترض عدم استلزام الدليل لمحل النزاع ، وشاهده : { ولله العزة ولرسوله } في جواب { ليخرجن الأعز منها الأذل } .


[1580]:رواه البخاري ومسلم.