285- إن ما أُنزل إلى الرسول - محمد - هو الحق من عند الله ، وقد آمن به وآمن معه المؤمنون كل منهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهم يسوُّون بين رسل الله في الإيمان بهم وتعظيمهم قائلين : لا نفرق بين أحد من رسله ، وأكدوا إيمانهم القلبي بقولهم اللساني متجهين إلى الله في خطابهم : ربنا سمعنا تنزيلك المحكم واستجبنا لما فيه ، فامنحنا اللهم مغفرتك ، وإليك - وحدك - المصير والمرجع .
قوله تعالى : { آمن الرسول } . أي صدق .
قوله تعالى : { بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } . يعني كل واحد منهم ، ولذلك وحد الفعل .
قوله تعالى : { وملائكته وكتبه ورسله } . قرأ حمزة والكسائي وكتابه ، على الواحد يعني القرآن ، وقيل معناه الجمع ، وإن ذكر بلفظ التوحيد كقوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ) وقرأ اآخرون وكتبه بالجمع كقوله تعالى : ( وملائكته وكتبه ورسله ) .
قوله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } . فنؤمن ببعض ، ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى ، وفيه إضمار تقديره : يقولون لا نفرق ، وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبراً عن الرسول ، أو معناه لا يفرق الكل وإنما قال بين أحد ولم يقل بين آحاد ، لأن الأحد يكون للواحد والجمع ، قال الله تعالى : ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) .
قوله تعالى : { وقالوا سمعنا } . قولك .
قوله تعالى : { وأطعنا } . أمرك .
روى عن حكيم ، عن جابر رضي الله عنهما : أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : " إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه " ، فسأل بتلقين الله تعالى فقال :
قوله تعالى : { غفرانك } . وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك . أو على المفعول به ، أي نسألك غفرانك . قوله تعالى : { ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . ظاهر الآية قضاء الحاجة ، وفيها إضمار السؤال كأنه قال : وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا ، وأجاب أي لا يكلف الله نفساً إلا وسعها أي طاقتها ، والوسع : اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ، واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله تعالى ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) كما ذكرنا .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : هم المؤمنون خاصة ، وسع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون ، كما قال الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقال الله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
ثم ختم - سبحانه - سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها ، وبين في الثانية أنه - سبحانه - لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم ، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم ، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء . قال - تعالى - :
{ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ . . . }
آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )
قوله : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون } استئناف قصد به الإِخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما يشرفهم ويعلى من أقدارهم ومنازلهم .
أي : صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه من ربه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبينات والهدايات تصديق إذعان وإقرار وإطمئنان ، وكذلك المؤمنون الذين صدقوه واتبعوه آمنوا بما آمن به رسولهم وداعيهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم .
وقد قرن - سبحانه - إيمان المؤمنين بإيمان رسولهم صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهم وللإِشارة إلى أنهم متى صدقوا في إيمانهم كانت منزلتهم عند الله - تعالى - قريبة من منازل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
وفي تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع ، وإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من آمن بما أوحى إليه من ربه ، وهو أقوى الناس إيماناً ، وأصدقهم يقينا . وأكثرهم استجابة لأوامر الله .
وقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } بيان للإِيمان الكامل الذي اعتقدوه وصدقوا به .
أي : كل فريق من هذين الفريقين وهما الرسول والمؤمنون آمن إيماناً تاماً بوجود الله - تعالى - ووحدانيته ، وكمال صفاته ، ووجوب الخضوع والعبادة له ، وبوجود الملاكئة وأنهم عباد مكرمون { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } كما آمنوا بكتب الله التي أنزلها لسعادة البشر ، وبرسله الذين أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور .
ثم بين - سبحانه - أن من صفات هؤلاء الأخيار أنهم لا يفرقون بين رسل الله - تعالى - فقال : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } أي يقولون لا نفرق في الإِيمان بين رسل الله - تعالى - وإنما نؤمن بهم جميعاً ، ونصدق برسالة كل رسول أرسله الله - تعالى - ولا نقول كما قال الضالون { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } ثم حكى - سبحانه - ما قالوه مما يدل على صدق إيمانهم ، ونقاء نفوسهم وطهارة قلوبهم فقالوا : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : وقالوا سمعنا قولك وفهمناه ، وامتثلنا أمرك - يا الهنا - واستقمنا عليه ، وصبرنا على تكاليفه بكل رضا واستسلام . { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من فضل رحمتك ونعمك فأنت ربنا وخالقنا والعليم بأحوالنا وبضعفنا .
فقوله : { غُفْرَانَكَ } مصدر منصوب على المفعول المطلق والعامل فيه مقدر أي : اغفر غفرانك . وقوله : { وَإِلَيْكَ المصير } أي : وإليك وحدك المرجع والمآب ، ومنك وحدك يكون الحساب والثواب والعقاب ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت الرسول صلى الله عليه وسلم مدحاً عظيماً ، ومدحت أتباعه المؤمنين الصادقين لاستجابتهم لأوامر الله ونواهيه ، وتضرعهم إليه بخالص الدعاء أن يغفر لهم ما فرط منهم .
{ آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يعني بذلك جل ثناؤه : صدّق الرسول ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقرّ { بما أُنْزِلَ إِلَيْهِ } يعني بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال : «يَحقّ لَهُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال : «وَيَحِقّ لَهُ أنْ يُؤمِنَ » .
وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه ، شقّ عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَعَلّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ! » فقالوا : بل نقول : سمعنا وأطعنا ! فأنزل الله لذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } . يقول : وصدّق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله الاَيتين . وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .
واختلف القراء في قراءة قوله : «وكتبه » ، فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض قراء أهل العراق : { وكُتُبِهِ } على وجه جمع الكتاب على معنى : والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسوله . وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة : «وكتابه » بمعنى : والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته ، وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه ، ويقول : الكتاب أكثر من الكتب . وكان ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : { وَالعَصْرِ إِنّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } بمعنى : جنس الناس وجنس الكتاب ، كما يقال : ما أكثر درهم فلان وديناره ، ويراد به جنس الدراهم والدنانير . وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إليّ من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع ، لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك ، أعني بذلك : «وملائكته وكتبه ورسله » ، فإلحاق الكتب في الجمع لفظا به أعجب إليّ من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } .
وأما قوله : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فإنه أخبر جلّ ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك . ففي الكلام في قراءة من قرأ : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } بالنون متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عنه ، وذلك المتروك هو «يقولون » .
( وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله . وترك ذكر «يقولون » لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبْرْتُمْ } بمعنى : يقولون سلام . وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدّمين : «لا يُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » بالياء ، بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرّق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ، ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقرّوا بموسى وكذّبوا عيسى ، والنصارى الذين أقرّوا بموسى وعيسى وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجحدوا نبوّته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذّبوا بعض رسل الله ، وأقّروا ببعضه . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } كما صنع القوم ، يعني بني إسرائيل ، قالوا : فلان نبيّ ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به .
والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } لأنها القراءة التي قامت حجة بالنقل المستفيض الذي يمتنع مع التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط ، يعني ما وصفنا من يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله . ولا يعترض بشاذّ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلاً ورواية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : وقال الكلّ من المؤمنين : { سَمِعْنا } قول ربنا ، وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه ، { وَأَطَعْنا } : يعني أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له : وقوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنا } يعني : وقالوا غفرانك ربنا ، بمعنى : اغفر لنا ، ربنا غفرانك ، كما يقال : سبحانك ، بمعنى نسبحك سبحانك . وقد بينا فيما مضى أن الغفران والمغفرة : الستر من الله على ذنوب من غفر له ، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والاَخرة ، وعفوه عن العقوبة عليه . وأما قوله : { وَإلَيْكَ المَصِيرُ } فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا . )
فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : { غُفْرَانَكَ } ؟ قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر ، وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدّت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : شكرا لله يا فلان ، وحمدا له ، بمعنى : اشكر الله واحمده ، والصلاةَ الصلاةَ : بمعنى صلوا . ويقولون في الأسماء : اللّهَ اللّهَ يا قوم . ولو رفع بمعنى هو الله ، أو هذا الله ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الاَمر كان جائزا ، كما قال الشاعر :
إنّ قَوْما مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وأشْبا *** هُ عُمَيْرٍ ومِنْهُمُ السّفّاحُ
لَجَدِيرُونَ بالوَفاءِ إذَا قا *** لَ أخو النّجدَةِ السّلاحُ السّلاحُ
ولو كان قوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنَا } جاء رفعا في القراءة لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا .
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم : إن الله عزّ وجلّ قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسلْ ربك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم بن جابر ، قال : لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَيْكَ المَصِير } قال جبريل : إن الله عزّ وجلّ قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ! فسأل : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } . . . إلى آخر السورة .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 )
سبب هذه الآية( {[2854]} ) أنه لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية التي قبلها . وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم تقرر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا } ، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا ، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله أعاذنا الله من نقمه ، و { آمن } معناه صدق ، و { الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم ، و { بما أنزل إليه من ربه } هو القرآن وسائر ما أوحي إليه( {[2855]} ) ، من جملة ذلك هذه الآية( {[2856]} ) التي تأولوها شديدة الحكم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال : ويحق له أن يؤمن( {[2857]} ) ، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون » ، و { كل } لفظة تصلح للإحاطة ، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام( {[2858]} ) ، ولما وردت هنا بعد قوله { والمؤمنون } دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر .
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه .
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم .
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ما أخبر هو به ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه » على الجمع ، وقرؤوا في التحريم و «كتابه »( {[2859]} ) على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه » على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه » على التوحيد فيهما ، وروى حفص عن عاصم ها هنا وفي التحريم «وكتبه » مثل أبي عمرو ، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، فمن جمع أراد جمع كتاب ، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى ، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا : نسج اليمن( {[2860]} ) ، وقال أبو علي في صدر كلامه : أما الإفراد في قول من قرأ «وكتابه » فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير ، كقوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] ونحو ذلك ، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك( {[2861]} ) ، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة ، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل :{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }( {[2862]} ) [ إبراهيم : 34 ] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها( {[2863]} ) ، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف ، ومنه قول ابن الرقاع :
يَدَعُ الْحَيَّ بالعشيِّ رَعَاهَا . . . وَهُم عَنْ رَغِيفِهِمْ أَغْنِيَاءُ( {[2864]} )
ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، وقرأت الجماعة «ورسُله » بضم السين ، وكذلك «رسُلنا » و «رسُلكم » و «رسُلك »( {[2865]} ) إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا » و «رسلكم » ، وروي عنه في «رسلك » التثقيل والتخفيف ، قال أبو علي من قرأ «على رسلك » بالتثقيل فذلك أصل الكلمة ، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب ، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل ، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتْبه ورسْله » بسكون التاء والسين ، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله » ، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق » بالنون ، والمعنى يقولون لا نفرق( {[2866]} ) ، وقرأ سعيد بن جبير ويحيي بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق » بالياء ، وهذا على لفظ { كل } ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون » ، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
وقوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا } مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر ، والطاعة قبول الأوامر ، و { غفرانك } مصدر كالكفران والخسران ، ونصبه على جهة نصب المصادر ، والعامل فيه فعل مقدر ، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك ، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك ، { وإليك المصير } إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال له جبريل : يا محمد إن الله قد أجل( {[2867]} ) الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فسأل إلى آخر السورة( {[2868]} ) .