101- ولو أوتى هؤلاء من الآيات ما اقترحوا لصرفوها عن وجهها ، ولم يؤمنوا بها ، ولقد آتينا موسى تسع آيات واضحات{[119]} ومع ذلك كفروا ، وقال فرعون : أني لأظنك مسحورا يا موسى .
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات ، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون ، وهي : العصا ، واليد ، والسنين{[17871]} ، والبحر ، والطوفان{[17872]} ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات . قاله ابن عباس .
وقال محمد بن كعب : هي اليد ، والعصا ، والخمس في الأعراف ، والطَّمْسَة والحجر .
وقال : ابن عباس أيضًا ، ومجاهد ، وعكرمة والشعبي ، وقتادة : هي يده ، وعصاه ، والسنين ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم .
وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي . وجعل الحسن البصري " السنين ونقص الثمرات " واحدة ، وعنده أن التاسعة هي : تلقف العصا ما يأفكون . { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [ الأعراف : 133 ] أي : ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها ، كفروا بها وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا ، وما نجعت{[17873]} فيهم ، فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك{[17874]} سألوا ، وقالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا } [ الإسراء : 90 ] إلى آخرها ، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله ، كما قال فرعون لموسى - وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات - : ( إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) قيل : بمعنى ساحر . والله تعالى أعلم .
فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا ، وهي المعنية في قوله تعالى : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ النمل : 10 - 12 ] . فذكر هاتين الآيتين : العصا واليد ، وبين الآيات الباقيات في " سورة الأعراف " وفصلها .
وقد أوتي موسى ، عليه السلام ، آيات أخرَ كثيرة ، منها ضربُه الحجر بالعصا ، وخروج الأنهار منه ، ومنها تظليلهم بالغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر ، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر ، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودًا . فأما الحديث الذي رواه الإمام [ أحمد ]{[17875]} :
حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة قال : سمعت عبد الله بن سلمة{[17876]} يحدث ، عن صفوان بن عَسّال المرادي ، رضي الله عنه ، قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[17877]} حتى نسأله عن هذه الآية : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقال : لا تقل له : نبي فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين . فسألاه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة - أو قال : لا تفروا من الزحف - شعبة الشاك - وأنتم يا يهود ، عليكم{[17878]} خاصة أن لا تعدوا في السبت " . فقبلا يديه ورجليه ، وقالا نشهد أنك نبي . [ قال : " فما يمنعكما أن تتبعاني ؟ " قالا لأن داود ، عليه السلام ، دعا ألا يزال من ذريته نبي ]{[17879]} ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود .
فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج ، به{[17880]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وهو حديث مشكل ، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء ، وقد تكلموا فيه ، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات ، فإنها ، وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون ، والله أعلم . ولهذا قال موسى لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ }
بَقي قولهم : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [ الإسراء : 92 ] غيرَ مردود عليهم ، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عِذاب ورعب ، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع . فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيراً لما سأله المشركون .
والمقصود : أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بيّناتتِ الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحراً ، ففي ذلك مَثلٌ للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم . ففي هذا مثَل للمعاندين وتسلية للرسول . والآيات التسع هي : بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجَها ، وانقلاب العصا حية ، والطوفان ، والجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم ، والرجز وهو الدمل ، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات ، وهي مذكورة في سورة الأعراف . وجمعها الفيروزآبادي في قوله :
عَصًا ، سَنَةٌ ، بَحْر ، جراد ، وقُمّل *** يَدٌ ، ودَمٌ ، بعد الضفادع طُوفَانُ
فقد حصلت بقوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات .
ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر ، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حساباً .
فالمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته .
وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] الآيات ، ثم قوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] .
فتكون هذه الجملة عطفاً على جملة { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] أو على جملة { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } الآية [ الإسراء : 100 ] .
ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهاداً بهم على المشركين ، وإدماجاً للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه ، تذكيراً لهم بحال فرعون وقومه { إذ قال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً } .
والخطاب في قوله : { فسئل } للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد : سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين .
وقوله : { مسحوراً } ظاهره أن معناه متأثراً بالسحر ، أي سحَركَ السحرة وأفسدوا عقلك فصُرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل ( مثل المَيْمون والمشؤوم ) . وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } [ الشعراء : 35 ] ، والذي قال فيه { إن هذا لساحر عليم } ، [ الشعراء : 34 ] فيكون إعراضاً عن الاشتغال بالآيات وإقبالاً على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم .
ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه قال { لمن حوله ألا تستمعون } [ الشعراء : 25 ] . وكل تلك أقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها .
و ( إذا ) ظرف متعلق ب { آتينا } . والضمير المنصوب في { جاءهم } عائد إلى بني إسرئيل . وأصل الكلام : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل ، فاسألْهم .
وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر ، أوْ تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر ، لأن الظن دون اليقين ، قال تعالى : { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] . وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين .