وقوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } قال أبو إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : نشأ : قام بالحبشة .
وقال عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير : الليل كله ناشئة . وكذا قال مجاهد ، وغير واحد ، يقال : نشأ : إذا قام من الليل . وفي رواية عن مجاهد : بعد العشاء . وكذا قال أبو مِجْلَز ، وقتادة ، وسالم وأبو حازم ، ومحمد بن المنكدر .
والغرض أن ناشئة الليل هي : ساعاته وأوقاته ، وكل ساعة منه تسمى ناشئة ، وهي الآنات . والمقصود أن قيام الليل هو{[29416]} أشد مواطأة بين القلب واللسان ، وأجمع على التلاوة ؛ ولهذا قال : { هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } أي : أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش .
[ وقد ]{[29417]} قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش ، أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية : " إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا " فقال له رجل : إنما نقرؤها { وَأَقْوَمُ قِيلا } فقال له : إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد . {[29418]}ولهذا قال : { إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا }
وقوله تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً } ، قال ابن جبير وابن زيد هي لفظة حبشية نشأ الرجل إذا قام من الليل ، ف { ناشئة } على هذا ، جمع ناشئ ، أي قائم ، و { أشد وطئاً } معناه ثبوتاً واستقلالاً بالقيام ، { وأقوم قيلاً } ، أي بخلو أفكارهم وإقبالهم على ما يقرأونه .
وقال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين : { ناشئة الليل } ما بين المغرب والعشاء ، وقالت عائشة ومجاهد : القيام بعد النوم ، ومن قام أول الليل قبل النوم فلم يقم ناشئة ، وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة : { ناشئة الليل } ساعاته كلها لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء . وقال أبو مجلز وابن عباس وابن الزبير والحسن : ما كان بعد العشاء فهو { ناشئة } ، وما كان قبلها فليس ب { ناشئة } ، قال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل فهي { أشد وطئاً } أي أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لأن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ ؟ وقال الكسائي : { ناشئة الليل } أوله ، وقال ابن عباس وابن الزبير : الليل كله { ناشئة } و { أشد وطئاً } ، على هذا يحتمل أن يكون أشد ثبوتاً فيكون نسب الثبوت إليها من حيث هو القائم فيها .
ويحتمل أن يريد أنها صعبة القيام لمنعها النوم كما قال «اللهم اشدد وطأتك على مضر {[11391]} » فذكرها تعالى بالصعوبة ليعلم عظم الأجر فيها كما وعد على الوضوء على المكاره والمشي في الظلام إلى المساجد ونحوه . وقرأ الجمهور : «وَطْئاً » بفتح الواو وسكون الطاء ، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وابن الزبير وابن عباس : «وطاء » على وزن فعال ، والمعنى موافقة لأنه يخلو البال من أشغال النهار وأشغابه ، فيوافق قلب المرء لسانه ، وفكره عبارته فهذه مواطأة صحيحة ، وبهذا المعنى فسر اللفظ مجاهد وغيره ، وقرأ قتادة في رواية حسين : «وِطاء » بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة{[11392]} ، وقرأ أنس «وأصوب قيلاً » ، فقيل له إنما هو { أقوم } ، فقال : أقوم وأصوب وأهيأ واحد .
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة { قم الليل } [ المزمل : 2 ] ، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطْأً وأقوم قيلا .
والمعنى : أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية .
و { ناشئة } وصف من النشء وهو الحدوث . وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف ، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى ( في ) مثل « مَكَر الليل » ، وجعل من أقوم القيل ، فعُلم أن فيه قولاً وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن ، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة ، أي الصلاة الناشئة في الليل ، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام .
ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعدَ هدأة الليل فأشبهت السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو ، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشْء فيها أقوى ، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم ، وفسر ابن عباس { ناشئة الليل } بصلاة الليل كلها . واختاره مالك . وعن علي بن الحسين : أنها ما بين المغرب والعشاء . وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير : أن أصل هذا معرب عن الحبشة ، وقد عدها السبكي في « منظومته » في معربات القرآن .
وإيثار لفظ { ناشئة } في هذه الآية دون غيره من نحو : قيامَ أو تَهَجُدَ ، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد .
وقرأ جمهور العشرة { وَطأً } بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة ، والوطء : أصله وضع الرجل على الأرض ، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأناً للظلام بالليل ، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله ، أي وَاطِئاً أنتَ ، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطىء على الأرض فهو أمكن للفعل . والمعنى : أشد وقعاً ، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء .
ويجوز أن يكون الوطء مستعاراً لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي ، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيراً وثواباً ، وبهذا فسره قتادة .
وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده { وِطاءً } بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر وَاطَأ من مادة الفعال . والوِطاء : الوفاق والملاءمة ، قال تعالى : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } [ التوبة : 37 ] . والمعنى : أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب ، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد .
وضمير { هي } ضمير فصل ، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً } [ المزمل : 20 ] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل . وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر .
والأقوم : الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير { أقوم } للأفضل الأنفع .
و { قيلاً } : القَول ، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] . فالمعنى : أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات ، وأعون على المزيد من التدبر . قال ابن عباس : { وأقوم قيلاً } : أدنى من أن يفقهوا القرآن . وقال قتادة : أحفظ للقراءة ، وقال ابن زيد : أقوم قراءة لفراغه من الدنيا .
وانتصب { وطْأً } و { قيلاً } نسبة تمييزي ل { أشد } ول { أقوم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.