اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا} (6)

{ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً }

فصل في معنى الآية

المعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل «قَوْلاً ثَقيْلاً » يثقل حمله ، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره ، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد .

وقيل : المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة : ثقيل - والله - فرائضه وحدوده{[58299]} .

وقال مجاهد : حلاله وحرامه{[58300]} .

وقال الحسن : العمل به{[58301]} .

وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد ، والوعيد ، والحلال والحرام{[58302]} .

وقال محمد بن كعب : «ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ، ويبطل أديانهم »{[58303]} .

وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم .

وقال السديُّ : ثقيل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليَّ ، أي يكرم عليّ{[58304]} .

وقال الفراءُ : «ثَقِيْلاً » أي : رزيناً .

وقال الحسن بن الفضل : ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد{[58305]} .

وقال ابن زيد : هو ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة{[58306]} .

وقيل : ثقيل : أي ثابت كثبوت الثقيل في محله ، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً .

[ وقيل : ثقيل : بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ، ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا في أحكامه ، وكذا أهل اللغة ، والنحو ، وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله ، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ]{[58307]} .

وقيل : هو الوحي ، كما جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه " .

وقال القشيري : القول الثقيل هنا : هو قول : " لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ " ، لأنه ورد في الخبر : " لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ " .

قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } . في الناشئة أوجه :

أحدها : أنها صفة لمحذوف ، أي : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة ، أي تنهض وترفع من «نشأت السحابة » إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض ، قال : [ الطويل ]

4921 - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى***وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ{[58308]}

الثاني : أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ ، على أنها مصدر من «نشأ » إذا قام ونهض ، فيكون كالعافية والعاقبة ، قالهما الزمخشري .

الثالث : أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل ، أي : قام من الليل .

قال أبو حيان{[58309]} : فعلى هذا هي جمع ناشئ ، أي : قائم ، يعني : أنها صفة لشيء يفهم الجمع ، أي : طائفة ، أو فرقة ناشئة ، وإلا ف «فاعل » لا يجمع على «فاعلة » .

قال القرطبي{[58310]} : «قال ابن مسعود : " الحبشة " [ يقولون : نشأ ، أي قام . فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ] غالبة عليهم ، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب » .

الرابع : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } : ساعاته ، وأوقاته ؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء .

قال القرطبيُّ{[58311]} :«لأنها تنشأ أولاً فأولاً ، يقال : نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشئ ، وأنشأه اللهُ فنشىء ، فالمعنى : ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة ، لأن كل ساعة تحدث » .

وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ : بما كان بعد العشاء ، إن كان قبلها فليس بناشئة{[58312]} ، وخصصتها عائشة رضي الله عنها بأن تكون بعد{[58313]} النوم ، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة{[58314]} .

قوله : { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } .

قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ{[58315]} : بكسر الواو ، وفتح الطاء بعدها ألف ، والباقون : بفتح الواو وسكون الطاء .

وقرأ قتادة وشبل{[58316]} عن أهل مكة : «وِطْأً » ، بكسر الواو وسكون الطاء .

وظاهر كلام أبي البقاء يؤذن أنه قرئ بفتح الواو مع المد ، فإنه قال : «وِطْأ » بكسر الواو بمعنى مواطأة ، وبفتحها اسم للمصدر ، ووطأ على " فعل " وهو مصدر وطئ ، والوطاء : مصدره " وِطَاء " ك " قِتَال " مصدر " قَاتلَ " ، والمعنى : أنها أشد مُواطأة ، أي : يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس ، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام ، أو العبادة ، أو الساعات ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص .

والوطء - بالفتح والكسر - : على معنى أشد ثبات قدم ، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : " اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر " . وعلى كل تقدير : فانتصابه على التمييز .

قوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } .

حكى الزمخشريُّ : أن أنساً قرأ{[58317]} : " وأصوب قِيْلاً " فقيل : له : يا أبا حمزة إنما هي " وأقْوَمُ " ، فقال : إن أقوم ، وأصوب وأهيأ ، واحد ، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ : { فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ }[ الإسراء : 25 ] - بالحاء المهملة - فقيل له : هي بالجيم فقال : جَاسوا وحاسوا واحد .

قال شهاب الدين{[58318]} : «وغرضه من هاتين الحكايتين ، جواز قراءة القرآن بالمعنى ، وليس في هذا دليل ؛ لأنه تفسيرُ معنى ، وأيضاً ، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر ، وهذه الحكاية آحاد ، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً ، { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم }[ الدخان : 43 ] ، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا ، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه ، وليس فيه دليل ، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفظ مبين » .

قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله ، واحتجوا بقول أنس هذا ، وهذا قول لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إلى قائله ، لأنه لو قرئ بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها ، واشتملت على غايتها لجاز أن يقرأ في موضع { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا ، حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : «نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم ، وتعال ، وأقبل » ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في " هَلُمَّ ، وتعال ، وأقبل " ، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وتابعوهم ، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت ، ومال ، وخرج عن مذهب الصواب ، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم . انتهى .

فصل في فضل صلاة الليل

بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب ، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب ، والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل .

وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل{[58319]} . قال في الصحاح{[58320]} : " ناشئة الليل " أول ساعاته .

وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كلهُ ، لأنه ينشأ بعد النهار{[58321]} ، وهو اختيار مالك .

قال ابن العربي : " وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة " .

وقالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة{[58322]} .

وقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل .

وأما قوله : { أَشَدُّ وَطْأً } ، أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار ، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل ، فقد تحمل المشقة العظيمة ، هذا على قراءة كسر الواو ، وفتح الطاء ، وأما على قراءة المد : فهو مصدر «واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً » ، أي : وافقت على الأمر من الوفاق ، تقول : فلان مواطئ اسمه اسمي ، أي : موافقه ، فالمعنى أشد موافقة بين القلب ، والبصر ، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات ، والحركات ، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما ، قال تعالى : { ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله }[ التوبة : 37 ] ، أي : ليوافقوا ، وقيل : أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر .

وقيل : أشد ثباتاً من النهار ، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل ، والوطء : الثبات ، تقول : وطئتُ الأرض بقدمي .

وقوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ، أي : أشد استقامة واستمراراً على الصواب ، لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه .

وقال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ؛ لأنه زمان التفهم{[58323]} .

وقيل : أشد استقامة لفراغ البال بالليل .

وقيل : أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة .

وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً ، وأكثر بركة{[58324]} .


[58299]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/281) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/443) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر.
[58300]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/26) عن مجاهد.
[58301]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/443) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر.
[58302]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/26).
[58303]:ينظر: المصدر السابق.
[58304]:ينظر: المصدر السابق.
[58305]:ينظر: المصدر السابق.
[58306]:ينظر: المصدر السابق.
[58307]:سقط من أ.
[58308]:ينظر: الكشاف 4/638، والبحر 8/354، والدر المصون 6/404، وروح المعاني 29/131.
[58309]:ينظر: البحر المحيط 8/362.
[58310]:الجامع لأحكام القرآن 19/27.
[58311]:السابق.
[58312]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/283) عن ابن مجلز وقتادة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/444) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد. وذكره عن أبي مجلز وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر.
[58313]:في أ: قبل.
[58314]:ينظر: تفسير القرطبي (19/28).
[58315]:ينظر: السبعة 658، والحجة 6/335، وإعراب القراءات 2/405، وحجة القراءات 430.
[58316]:ينظر: البحر المحيط 8/355، والدر المصون 6/404.
[58317]:ينظر: الكشاف 4/639، والمحرر الوجيز 5/388، والدر المصون 6/404.
[58318]:الدر المصون 6/404.
[58319]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/282) عن عكرمة.
[58320]:ينظر: الصحاح 1/78.
[58321]:أخرجه الطبري (12/282) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/444) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر.
[58322]:تقدم.
[58323]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/283) عن قتادة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/445) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن نصر.
[58324]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/28) عن عكرمة.