فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا} (6)

{ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } أي ساعاته وأوقاته ، لأنها تنشأ أوّلاً فأوّلاً ، يقال : نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئًا بعد شيء ، فهو ناشئ ، وأنشأه الله فنشأ ، ومنه نشأت السحاب : إذا بدأت ، فناشئة فاعلة من نشأ ينشأ ، فهي ناشئة . قال الزجاج : ناشئة الليل كل ما نشأ منه : أي حدث ، فهو ناشئة ، قال الواحدي : قال المفسرون : الليل كله ناشئة ، والمراد أن ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف . وقيل : إن ناشئة الليل هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة : أي تنهض ، من نشأ من مكانه : إذا نهض . وقيل : الناشئة بالحبشية قيام الليل ، وقيل : إنما يقال لقيام الليل ناشئة : إذا كان بعد نوم . قال ابن الأعرابي : إذا نمت من أوّل الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة ، ومنه ناشئة الليل . قيل : وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء ، لأن معنى نشأ ابتدأ ، ومنه قول نصيب :

ولولا أن يقال صبا نصيب *** لقلت بنفسي النشء الصغار

قال عكرمة وعطاء : إن ناشئة الليل بدوّ الليل . وقال مجاهد وغيره : هي في الليل كله ، لأنه ينشأ بعد النهار ، واختار هذا مالك . وقال ابن كيسان : هي القيام من آخر الليل . قال في الصحاح : ناشئة الليل أوّل ساعاته . وقال الحسن : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } قرأ الجمهور : { وَطْأً } بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، واختار هذه القراءة أبو حاتم . وقرأ أبو العالية ، وابن أبي إسحاق ومجاهد وأبو عمرو وابن عامر وحميد وابن محيصن والمغيرة وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، فالمعنى على القراءة الأولى أن الصلاة في ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار ، لأن الليل للنوم . قال ابن قتيبة : المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار ، من قول العرب : اشتدّت على القوم وطأة السلطان : إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر } والمعنى على القراءة الثانية أنها أشدّ مواطأة : أي موافقة ، من قولهم : واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطاء : إذا وافقته عليه . قال مجاهد وابن أبي مليكة : أي أشد موافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان لانقطاع الأصوات والحركات فيها ، ومنه : { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } [ التوبة : 37 ] أي ليوافقوا . وقال الأخفش : أشدّ قياماً . وقال الفرّاء : أي أثبت للعمل ، وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش ، فعبادته تدوم ولا تنقطع . وقال الكلبي : أشدّ نشاطاً { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي وأشدّ مقالاً ، وأثبت قراءة لحضور القلب فيها وهدوء الأصوات ، وأشدّ استقامة واستمراراً على الصواب ، لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه . قال قتادة ومجاهد : أي أصوب للقراءة وأثبت للقول ، لأنه زمان التفهم . قال أبو عليّ الفارسي : أقوم قليلاً : أي أشدّ استقامة لفراغ البال بالليل . قال الكلبي : أي أبين قولاً بالقرآن . وقال عكرمة : أي أتمّ نشاطاً وإخلاصاً وأكثر بركة . وقال ابن زيد : أجدر أن يتفقه في القرآن . وقيل : أعجل إجابة للدعاء .

/خ18