فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا} (6)

{ إن ناشئة الليل } أي ساعاته وأوقاته ، لأنها تنشأ أولا فأولا ، يقال نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدئ وأقبل شيئا بعد شيء فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ ، ومنه نشأت السحاب إذا بدأت ، فناشئة فاعلة من نشأت تنشئ فهي ناشئة ، قال الزجاج : ناشئة الليل كل ما نشأ منه أي حدث فهو ناشئة ، قال الواحدي : قال المفسرون الليل كله ناشئة ، والمراد أن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف ، وقيل إن ناشئة الليل هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض ، من نشأ من مكانه إذا نهض ، وقيل إنما يقال لقيام الليل ناشئة إذا كان بعد نوم ، فلو لم يتقدمه نوم لم يكن ناشئة ، وقيل ما ينشا فيه من الطاعات .

قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة ومنه ناشئة الليل قيل وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء لأن معنى نشأ ابتدأ وكان زين العابدين علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : هذه ناشئة الليل ، وقال عكرمة وعطاء : هي بدو الليل ، وقال مجاهد وغيره : هي في الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار ، واختار هذا مالك ، وقال ابن كيسان هي القيام من آخر الليل .

وقال في الصحاح : ناشئة الليل أول ساعاته ، وقال الحسن : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح ، وقال ابن عباس : هي قيام الليل بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا نشأ ، قال الشيخ فعلى هذا هي جمع ناشئ أي قائم ( قلت ) يعني أنها صفة لشيء يفهم الجمع أي طائفة أو فرقة ناشئة وإلا ففاعل لا يجمع على فاعلة .

وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : هي أوله ، وعنه قال الليل كله ناشئة ، وعن ابن مسعود قال ناشئة الليل بالحبشية قيام الليل ، وعن أنس بن مالك : قال هي ما بين المغرب والعشاء .

{ هي أشد وطأ } قرأ الجمهور بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة واختارها أبو حاتم وقرئ بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة واختار هذه الفراء وأبو عبيدة ، فالمعنى على الأولى أن الصلاة ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار ، لأن الليل للنوم ، قال ابن قتيبة المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار من قول العرب اشتدت على القوم وطأة السلطان إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه ، منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " اللهم اشدد وطأتك على مضر " ( {[1652]} ) .

والمعنى على قراءة الثانية أنها أشد مواطأة أي موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن من قولهم واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطاء إذا وافقته عليه ، قال مجاهد وابن وأبي مليكة : أي أشد موافقة بين القلب والسمع والبصر واللسان ، لانقطاع الأصوات والحركات فيها ، ومنه { ليواطئوا عدة ما حرم الله } أي ليوافقوا ، وقال الأخفش : أشد قياما ، وقال الفراء : أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش ، فعبادته تدوم ولا تنقطع ، وقال الكلبي أشد نشاطا .

{ وأقوم قيلا } أي أبين قولا ، وأسد مقالا ، وأثبت قراءة وأصح قولا من النهار لحضور القلب فيها وهدو الأصوات وسكونها ، وأشد استقامة واستمرارا على الصواب ، لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه ، قال قتادة ومجاهد : أي أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم ، قال أبو علي الفارسي : أقوم قيلا أي أشد استقامة بفراغ البال بالليل ، قال الكلبي : أي أبين قولا بالقرآن ، وقال عكرمة : أي أتم نشاطا وإخلاصا وأكثر بركة ، وقال ابن زيد : أجدر أن يتفقه في القرآن وقيل أعجل إجابة للدعاء .


[1652]:متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله في قصة القنوت في صلاة الصبح.