95- إن دلائل قدرة الله على البعث ، واستحقاقه وحده للعبادة ، وبعثه للناس من قبورهم ، متوافرة متنوعة ، فهو وحده الذي يشق الحب ، ويخرج منه النبات ، ويشق النوى ويخرج منه الشجر ، ويخرج الحي من الميت كالإنسان من التراب ، ويخرج الميت من الحي كاللبن من الحيوان ، ذلك القادر العظيم هو الإله الحق ، فليس هناك صارف يصرفكم عن عبادته إلى عبادة غيره{[61]} .
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى ، أي : يشقه في الثرى فتنبت الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب ، والثمار على اختلاف أشكالها وألوانها وطعومها من النوى ؛ ولهذا فسر [ قوله ]{[10977]} { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } بقوله { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } أي : يخرج النبات الحي من الحب والنوى ، الذي هو كالجماد الميت ، كما قال : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ ]{[10978]} وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [ يس : 33 - 36 ] .
وقوله : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } معطوف على { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } ثم فسره ثم عطف عليه قوله : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ }
وقد عبروا عن هذا [ وهذا ]{[10979]} بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى ، فمن قائل : يخرج الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، من قائل : يخرج الولد الصالح من الكافر ، والكافر من الصالح ، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها .
ثم قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ } أي : فاعل هذه الأشياء هو الله وحده لا شريك له { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : فكيف تصرفون من الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون مع الله غيره .
{ إن الله فالق الحب والنوى } بالنبات والشجر . وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة . { يخرج الحي } يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله . { من الميت } مما لا ينمو كالنطف والحب . { ومخرج الميت من الحي } ومخرج ذلك من الحيوان والنبات ، ذكره بلفظ الاسم حملا على فالق الحب فإن قوله : يخرج الحي واقع موقع البيان له . { ذلكم الله } أي ذلكم المحي المميت هو الذي يحق له العبادة . { فأنا تؤفكون } تصرفون عنه إلى غيره .
استئناف ابتدائي انتُقل به من تقرير التّوحيد والبعث والرّسالة وأفانين المواعظ والبراهين الّتي تخلّلت ذلك إلى الاستدلال والاعتبار بخلق الله تعالى وعجائب مصنوعاته المشاهدة ، على انفراده تعالى بالإلهيّة المستلزم لانتفاء الإلهيّة عمّا لا تقدر على مثل هذا الصّنع العجيب ، فلا يحقّ لها أن تعبد ولا أن تشرك مع الله تعالى في العبادة إذ لا حقّ لها في الإلهيّة ، فيكون ذلك إبطالاً لشرك المشركين من العرب ، وهو مع ذلك إبطال لمعتقَد المعطّلين من الدُهريين منهم بطريق الأوْلى ، وفي ذلك امتنان على المقصودين من الخطاب وهم المشركون بقرينة قوله : { فأنَّى تُؤفَكُون } ، أي فتكفرون النّعمة . وفيه عِلم ويقين للمؤمنين من المصدّقين واستزادة لمعرفتهم بربّهم وشكرهم .
وافتتاحُ الجملة ب { إنْ } مع أنّه لا ينكر أحد أنّ الله هو فاعل الأفعال المذكورة هنا ، ولكنَّ النّظر والاعتبار في دلالة الزّرع على قدرة الخالق على الإحياء بعد الموت كما قدر على إماتة الحي ، لمّا كان نظراً دقيقاً قد انصرف عنه المشركون فاجْترأوا على إنكار البعث ، كان حالهم كحال من أنكر أو شَكّ في أنّ الله فالقُ الحبّ والنَّوى ، فأكّد الخبر بحرف ( إنْ ) .
وجيء بالجملة الاسميّة للدّلالة على ثبات هذا الوصف دوامه لأنّه وصف ذاتي لله تعالى ، وهو وصف الفعل أو وصف القدرة وتعلُّقاتها في مصطلح من لا يثبت صفات الأفعال ، ولمّا كان المقصود الاكتفاء بدلالة فلق الحبّ والنّوى على قدرة الله على إخراج الحيّ من الميّت ، والانتقالُ من ذلك إلى دلالته على إخراج الحيّ من الميّت في البعث ، لم يؤت في هذا الخبر بما يقتضي الحصر إذ ليس المقام مقام القصر .
والفَلْق : شَقّ وصدعُ بعض أجزاء الشّيء عن بعض ، والمقصود الفلق الّذي تنبثق منه وشائج النّبْت والشّجر وأصولها ، فهو محلّ العبرة من علم الله تعالى وقدرته وحكمته .
والحَبّ اسم جمع لما يثمره النّبت ، واحده حبّة . والنَّوى اسم جمع نواة ، والنّواة قلب التّمرة . ويطلق على ما في الثّمار من القلوب الّتي منها يَنبت شجرها مثل العنب والزّيتون ، وهو العَجَم بالتّحريك اسم جمع عَجَمة .
وجملة : { يخرج الحيّ من الميّت } في محلّ خبر ثان عن اسم ( إنّ ) تتنزّل منزلة بيان المقصود من الجملة قبلها وهو الفَلْق الّذي يخرج منه نبتاً أو شجراً نامياً ذا حياة نباتيةٍ بعد أن كانت الحبّة والنّواة جسماً صلباً لا حياة فيه ولا نماءَ . فلذلك رجّح فصل هذه الجملة عن الّتي قبلها إلاّ أنّها أعمّ منها لدلالتها على إخراج الحيوان من ماء النطفة أو من البيض ، فهي خبر آخر ولكنّه بعمومه يبيّن الخبر الأوّل ، فلذلك يحسن فصل الجملة ، أو عدمِ عطف أحد الأخبار .
وعُطف على { يخرج الحيّ من الميّت } قولُه { ومخرج الميّت من الحيّ } لأنّه إخبار بضدّ مضمون { يخرج الحيّ من الميّت } وصنع آخر عجيب دالّ على كمال القدرة وناف تصرّف الطّبيعة بالخَلْق ، لأنّ الفعل الصّادر من العالم المختار يكون على أحوال متضادة بخلاف الفعل المتولد عن سبب طبعي ، وفي هذا الخبر تكملة بيان لما أجمله قوله : { فالقُ الحبّ والنّوى } ، لأنّ فلق الحبّ عن النّبات والنّوى عن الشّجر يشمل أحوالاً مُجملة ، منها حال إثمار النّبات والشّجر : حبّاً ييبس وهو في قصب نباته فلا تكون فيه حياة ، ونوىً في باطن الثّمار يبَساً لا حياة فيه كنوى الزّيتون والتّمر ، ويزيد على ذلك البيان بإخراج البيض واللّبَن والمِسْك واللّؤلؤ وحجر ( البازهر ) من بواطن الحيوان الحيّ ، فظهر صدور الضدّين عن القدرة الإلهيّة تمام الظّهور .
وقد رَجَح عطفُ هذا الخبر لأنّه كالتكملة لقوله : { يخرج الحيّ من الميّت } أي يفعل الأمرين معاً كقوله بعده { فالقُ الإصباح وجاعلُ اللّيل سَكنا } . وجعله في « الكشاف » عطفاً على { فالق الحبّ } بناء على أنّ مضمون قوله : { مُخرج الميّت من الحيّ } ليس فيه بيان لمضمون { فالق الحبّ } لأنّ فلق الحبّ ينشأ عنه إخراج الحيّ من الميّت لا العكس ، وهو خلاف الظّاهر لأنّ علاقة وصف { مخرج الميّت من الحيّ } بخبر { يخرج الحيّ من الميّت } أقوى من علاقته بخبر { فالق الحبّ والنّوى } .
وقد جيء بجملة : { يخرج الحيّ من الميّت } فعليّة للدّلالة على أنّ هذا الفعل يتجدّد ويتكرّر في كلّ آن ، فهو مُراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتّفاق .
وجيء في قوله : { ومُخرج الميّت من الحيّ } اسماً للدّلالة على الدّوام والثّبات ، فحصل بمجموع ذلك أنّ كلا الفعلين متجدّد وثابِت ، أي كثير وذاتيّ ، وذلك لأنّ أحد الإخراجين ليس أوْلى بالحكم من قرينه فكان في الأسلوب شِبه الاحتباك .
والإشارة ب { ذلكم } لزيادة التّمييز وللتّعريض بغباوة المخاطبين المشركين لغفلتهم عن هذه الدّلالة على أنّه المنفرد بالإلهيّة ، أي ذلكم الفاعل الأفعال العظيمة من الفلق وإخراج الحيّ من الميّت والميّت من الحيّ هو الّذي يعرفه الخلق باسمه العظيم الدالّ على أنّه الإله الواحد ، المقصور عليه وصف الإلهيّة فلا تعدلوا به في الإلهيّة غيره ، ولذلك عقّب بالتّفريع بالفاء قوله : { فأنَّى تؤفكون } .
والأَفك بفتح الهمزة مصدر أفَكَه يأفكه ، من باب ضرب ، إذا صرفه عن مكان أو عن عَمل ، أي فكيف تصرفون عن توحيده .
و( أنَّى ) بمعنى من أين . وهو استفهام تعجيبي إنكاري ، أي لا يوجد موجب يصرفكم عن توحيده . وبُني فعل { تؤفكون } للمجهول لعدم تعيّن صارفهم عن توحيد الله ، وهو مجموع أشياء : وسوسة الشّيطان ، وتضليل قادتهم وكبرائهم ، وهوى أنفسهم .
وجملة ( ذلكم الله ) مستأنفة مقصود منها الاعتبار ، فتكون جملة : { ذلكم الله فأنّى تؤفَكون } اعتراضاً .