التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ} (95)

وبعد أن ساق - سبحانه - ألواناً من الدلائل على وحدانيته ، وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، شرع - سبحانه - فى سرد مظاهر قدرته ، وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل فى هذا الكون العجيب ، وفى بدائع مخلوقاته فقال - تعالى - : { إِنَّ الله . . . } .

قوله : { إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى } .

فالق : أى شاق ، والفلق هو الشق وقيل ، فالق بمعنى خالق وأنكر ابن جرير الطبرى ذلك وقال : لا يعرف فى كلام العرب فلق الشىء بمعنى خلق .

والحب : ما ليس له نوى كالحنطة والشعير .

والنوى : جمع نواة وهو الموجود فى داخل الثمرة ، مثل نوى التمر وغيره .

والمعنى : أن الله وحده هو الذى يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامى ، ويشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية ، وفى ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التى لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره .

هذا ، وقد أفاض الإمام الرازى وهو يتحدث عن هذه الآية فى بيان قدرة الله فقال ما ملخصه :

" إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة فى الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله - تعالى - فى تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخرن فالأول يخرج من الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، والثانى يخرج منه الشجرة الهابطة فى الأرض ثم إن ها هنا عجائب .

فإحداها : أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضى الهوى فى عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة فى الهواء ؟ وإن كانت تقتضى الصعود فى الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة فى الأرض ؟ فلما تولد منها الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى - علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين .

وثانيهما : أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوى فيه ، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق فى غاية الدقة واللطافة وبحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ فى تلك الارض الصلبة ، والغوص فى بواطن تلك الأجرام الكثيفة . فحصول هذه القرى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التى هى فى غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم .

ثم قال - رحمه الله - بعد كلام طويل : فانظر أيها المسكين بعين رأسك فى تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة ، واعرف كيفية خلقه تلك العروق والأوتار فيها ، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة فى الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله فى حقك غير متناهية كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة .

وقوله { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } أى : يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو كالنطفة والحبة .

والجملة الكريمة مستأنفة مبينة لما قبلها ولذلك ترك العطف ، وقيل خبر ثان ولم يعطف لاستقلاله فى الدلالة على عظمة الله - تعالى - .

وقوله : { وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } أى : مخرج الميت كالحب والنوى من النبات والبيضة والنطفة من الحيوان .

قال صاحب المنار : فإن قيل إن علماء المواليد يزعمون أن فى كل اصول الأحياء حياة فكل ما ينبت من ذلك ذو حياة كامنة إذا عقم بالصناعة لا ينبت ، قلنا : إن هذا اصطلاح لهم يسمون القوة أو الخاصية التى يكون بها الحب قابلا للإنبات حياة ، ولكن هذا لا يصح فى اللغة إلا بضرب من التجوز وإنما حقيقة الحياة فى اللغة ما يكون به الجسم متغذياً نامياً بالفعل ، وهذا أدنى مراتب الحياة عند العرب ، ولها مراتب أخرى كالإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام ، وهذا أعلى مراتب الحياة فى المخلوق .

ونقل بعض المفسرين عن ابن عباس أن معنى الجملتين : يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ومثله إخراج البار من الفاجر والصالح من الطالح والعالم من الجاهل وعكسه ، وذلك بحمله الحياة والموت على المعنوى منها كما فى قوله - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } ويبدو لنا أن حمل الحياة والموت هنا على المعنى المعنوى لا يناسبه سياق الآيات التى معنا ، لأنها تتحدث عن آثار قدرة الله المحسوسة ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويتأمل كل ذى عقل فى مظاهر قدرة الله فى كونه يهتدى إلى طريق الحق والصواب .

وقوله { وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } معطوف على ما قبله وهو قوله { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } لأنه إخبار بضد مضمونه وهو وضع آخر عجيب دال على كمال القدرة .

وجىء بجملة { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } معطوف على { فَالِقُ } لا على { يُخْرِجُ } لأنه بيان لفالق الحب والنوى .

قال - رحمه الله : فإن قلت : كيف قال { وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } بلفظ اسم الفاعل بعد قوله : { خْرِجُ الحي مِنَ الميت } ؟ قلت : عطفه على فالق الحب والنوى لا على الفعل ، ويخرج الحى من الميت : موقعه موقع الجملة المبينة لقوله { فَالِقُ الحب والنوى } لأن فالق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحى من الميت ، لأن النامى فى حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله - تعالى - { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } { ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ } الأفك - بفتح الهمزة - مصدر أفكه يأفكه من باب ضرب إذا صرفه عن مكان أو عن عمل ، ويقال أفكت الأرض أفكا : أى صرف عنها المطر .

والإشارة بذلكم لزيادة التمييز ، وللتعريض بغباوة المخاطبين والمشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على أنه هو المستحق للعبادة .

والمعنى : ذلكم المتصف بما ذكر من مقتضى الحكمة البالغة والقدرة النفاذة هو الله خالق كل شىء فكيف تصرفون عن عبادة من يخلق إلى عبادة من لا يخلق ، وتشركون معه من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضراً ؟

قال الإمام الرازى : والمقصود منه أن الحى والميت متضادات متنافيان ، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية .

أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم " .