في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ} (95)

95

( إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ، ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله فأنى تؤفكون ؟ ) . .

إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد ؛ فضلا على أن يملك صنعها أحد ! معجزة الحياة نشأة وحركة . . وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية ، وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة . والحياة الكامنة في الحبة والنواة ، النامية في النبتة والشجرة ، سر مكنون ، لا يعلم حقيقته إلا الله ؛ ولا يعلم مصدره إلا الله . . وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها ، وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها . .

تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول ، تدرك الوظيفة والمظهر ، وتجهل المصدر والجوهر ، والحياة ماضية في طريقها . والمعجزة تقع في كل لحظة ! ! !

ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت . فقد كان هذا الكون - أو على الأقل كانت هذه الأرض - ولم يكن هناك حياة . . ثم كانت الحياة . . أخرجها الله من الموات . . كيف ؟ لا ندري ! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت ؛ فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة - عن طريق الأحياء - إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية ؛ وتتحول - وأصلها ذرات ميتة - إلى خلايا حية . . والعكس كذلك . . ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة ؛ إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة !

( يخرج الحي من الميت ، ومخرج الميت من الحي ) . .

ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك . . لا يقدر إلا الله أن ينشى ء الحياة منذ البدء من الموات . ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية . ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة . . في دورة لم يعلم أحد يقينا بعد متى بدأت ، ولا كيف تتم . . وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات ! ! !

لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة ، على غير أساس أنها من خلق الله . . ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا . . ( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ! ) . . وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة ، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله . . ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا . . ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد ، ولا تدل على الإخلاص !

وأقوال بعض " علمائهم " الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله ، تصور حقيقة موقف " علمهم " نفسه من هذه القضية . ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين ، عازفين عن هذا الدين ، لأنه يثبت " الغيب " وهم " علميون ! " لا " غيبيون " ! . .

ونختار لهم هؤلاء العلماء من " أمريكًا ! ! !

يقول " فرانك أللن " . [ ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا ] في مقال : نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد ؟ من كتاب : " الله يتجلى في عصر العلم " . . ترجمة الدكتور : الدمرداش عبد المجيد سرحان .

. . " فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق ، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة ؟

" إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق . وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب - مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم - ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا ، حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر ، التي نقول : إنها تحدث بالمصادفة ، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى [ مثل قذف الزهر في لعبة النرد ] . وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراساتقادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة ، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة ، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان . . ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة :

" إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية . وهي تتكون من خمسة عناصر ؛ هي : الكربون ، والأدروجين ، والنيتروجين ، والأكسجين ، والكبريت . . ويبلغ عدد الذرات في الجزيء الواحد 000 40 ذرة . ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصرا ، موزعة كلها توزيعا عشوائيا ، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة ، لكي تكون جزئيا من جزيئات البروتين ، يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزيء ؛ ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد .

" وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا ، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد ، إلا بنسبة 1 إلى 10 160 ، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة . وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات . . وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات . . ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها - عن طريق المصادفة - بلايين لا تحصى من السنوات ، قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين [ 10 243 سنة ]

" إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية . فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات ؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى ، غير التي تتآلف بها ، تصير غير صالحة للحياة . بل تصير في بعض الأحيان سموما ، وقد حسب العالم الانجليزي : ج . ب . سيثر . . الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات ، فوجد أن عددها يبلغ الملايين [ 10 48 ] وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا .

" ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة ، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب ، الذي لا ندري من كنهه شيئا ، إنه العقل اللانهائي . وهو الله وحده ، الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته ، أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة ، فبناه وصوره ، وأغدق عليه سر الحياة " . .

ويقول إيرفنج وليام [ دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان ] في مقال : " المادية وحدها لا تكفي " من الكتاب نفسه :

" إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد ، وهي التي تتكون منها جميع المواد . كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة . ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن . . نقول : إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم . فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع ! " .

ويقول : " ألبرت ماكومب ونشتر " [ متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس . أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور . . . ] في مقال : " العلوم تدعم إيماني بالله " من الكتاب نفسه :

" . . . وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء . وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة . وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون .

" انظر إلى نبات برسيم ضئيل . وقد نما على أحد جوانب الطريق . فهل تستطيع أن تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة ؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار ، بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية ؛ ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم - وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية .

" فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة ؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها ، ولكنه خلق الحياة ، وجعلها قادرة على صيانة نفسها ، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل . مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر . . إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء ، وأكثرها إظهارا لقدرة الله . . إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد ، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر . ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات : كل عرق ، وكل شعيرة ، وكل فرع على ساق ، وكل جذر أو ورقة ، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا ، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات . . تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات [ ناقلات الوراثة ] .

وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن : ( ذلكم الله ) . .

مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر . . هو الله . . وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده . . بالعبودية والخضوع والاتباع .

( فأنى تؤفكون ؟ ) . .

فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون !

إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيرا في القرآن الكريم - كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء - في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية ، وآثارها الدالة على وحدة الخالق ، لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود ، الذي يدين له العباد ؛ بالاعتقاد في ألوهيته وحده ، والطاعة لربوبيته وحده ، والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية ، والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله ، والدينونة لشريعته كذلك وحدها . .

وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية ! إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية . إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر - بإعطائهم العقيدة الصحيحة - لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة .

وذلك لا يكون أبدا إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد . وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا ، وفي شئون الحياة اليومية لله وحده ، وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين ، الذين يدعون حق الألوهية ، فيزاولون الحاكمية في حياة البشر ، ويصبحون آلهة زائفة وأربابا كثيرة ؛ فتفسد الحياة ، حين يستعبد الناس فيها لغير الله !

ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة :

( ذلكم الله فأنى تؤفكون ) . .

ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم . . والرب هو المربى والموجه والسيد والحاكم . .

ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله . .