غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ} (95)

91

ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حال المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال { إن الله فالق الحب والنوى } أي بالنبات والشجر . وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة ، والفلق هو الشق . وعن ابن عباس والضحاك : الفلق هو الخلق . ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق ، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل . واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً ، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، وأما السافل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة ، وهاهنا عجائب منها : أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس . فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار . ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين ، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض ، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم . ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار ، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب ، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار . ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة ، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب ، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب . ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة ، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز ، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر ، وبعض الفواكه يكون كله مطلوباً كالتين . فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة . تتضمن حكماً وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها . ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطاً واحدا ًمستقيماً يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس ، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقائق أصغر من الأول ، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة . فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر ، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل ، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير .

ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله { يخرج الحي من الميت } لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت ، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال { يحيي الأرض بعد موتها } [ الحديد : 17 ] ثم عطف على قوله { فالق الحب } قوله { ومخرج الميت من الحي } قال ابن عباس : أخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضاً ، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم ، والكافر من المؤمن كنوح وابنه ، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع ، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم ، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل ، وقد يجعل الضار نافعاً وبالعكس . يحكى أن إنساناً سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سبباً لدفع ضرر برد الأفيون . ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله { ومخرج الميت } معطوف على قوله { يخرج } وإنما حسن عطف الاسم على الفعل هاهنا ، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال { هل من خالق غير الله يرزقكم } [ فاطر : 3 ] ليفيد أنه يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت ، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس { ذلكم الله } المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت { فأنى تؤفكون } فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء ؟

/خ100