[ 95 ] { إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ( 95 ) } .
{ إن الله فالق الحب والنوى } شروع في بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته ، وعلمه وحكمته ، إثر تقرير شأن توحيده تعالى ، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله ، وأنه مبدع الأشياء وخالقها . ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة ، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ولتعريف خطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه . والمعنى : أن الذي يستحق العبادة دون غيره ، هو الله الذي فلق الحب عن النبات ، والنواة عن النخلة .
أحدهما- أنه بمعنى خالق . وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه . وبه قال الضحاك ومقاتل . قال الواحدي : ذهبوا ب ( فالق ) مذهب ( فاطر ) . وأنكر الطبري{[3584]} هذا ، وقال : لا يعرف في كلام العرب ( فلق الله الشيء ) ، بمعنى خلق . ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه . وكذا المجد في ( القاموس ) .
قال الرازي : ( الفطر ) هو الشق ، وكذلك ( الفلق ) . فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوما محضا ، ونفيا صرفا . والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ، / ولا انفلاق ، ولا انشقاق . فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود ، فكأنه حمل الفالق على الموجد والمبدع .
والقول الثاني- وهو قول الأكثرين : أن الفلق هو الشق . وفي معناه وجهان :
أحدهما- مروي عن ابن عباس قال : " فلق الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة " . وهو قول الحسن والسدي وابن زيد . قال الزجاج : يشق الحبة اليابسة ، والنواة اليابسة ، فيخرج منها ورقا أخضر .
الوجه الثاني- وهو قول مجاهد : أنه الشقان اللذان في الحب والنوى .
وضعف بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة .
و ( الحب ) : ما ليس له نوى ، كالحنطة والشعير والأرز .
و ( النوى ) : جمع نواة ، وهو الموجود في داخل الثمرة ، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما .
قال الإمام الرازي : إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ، ثم مر به قدر من المدة ، اظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ، ومن أسفلها شقا آخر ، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء والثاني يخرج من الشجرة الهابطة في الأرض ، المسماة بعروق الشجرة . وتصير تلك الحبة والنواة سببا لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض .
فإحداهما- أن طبيعة تلك الشجرة ، إن كانت تقتضي الهوي في عمق الأرض ، فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء ؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء ، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض ؟ فلما تولد منها الشجرتان ، مع أن الحس والعقل / يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى- علمنا ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع .
وثانيها- أن بطن الأرض جرم كثيف صلب ، لا تنفذ المسلة القوية فيه ، ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه . ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة ، بحيث لو دلكها الإنسان بأصبعه بأدنى قوة ، لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة ، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة . فحصول هذه القوة الشديدة ، لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة ، لابد وأن يكون بتقرير العزيز الحكيم .
وثالثها- أنه يتولد من تلك النواة شجرة ، ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة ، فإن قشر الخشبة به طبيعة مخصوصة ، وفي داخل القشرة جرم الخشبة ، وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف ، يشبه العهن المنفوش . ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ، ويتولد على الأغصان الأوراق أولا ، ثم الأزهار والأنوار ثانيا ، ثم الفاكهة ثالثا . ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر : مثل الجوز ، فإن قشره الأعلى هو ذلك الأخضر ، وتحته ذلك الأخضر ، وتحته ذلك القشر الذي يشبه الخشب ، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب ، وتحته اللب . وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف ، وهو أيضا كالقشر ، وعلى جرم لطيف ، وهو الدهن . وهو المقصود الأصلي . فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها ، مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة ، والطبائع الأربع- يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر ، لا بتدبير الطبائع والعناصر .
ورابعها- أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة ، فالأترنج : قشره حار يابس ، ولحمه بارد رطب . وحماضه بارد يابس ، وبزره حار يابس . وكذلك العنب : قشره / وعجمه بارد يابس ، وماؤه ولحمه حار رطب . فتولد هذه الطبائع المتضادة ، والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة – لابد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار .
وخامسها- أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة ، فبعضها يكون اللب في الداخل ، والقشرة في الخارج ، كما في الجوز واللوز . وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج ، تكون الخشبة في الداخل ، كالخوخ والمشمش . وبعضها يكون النواة لها لب ، كما في نوى المشمش والخوخ . وبعضها لا لب له ، كما في نوى مختلفة في هذه الفواكه . وأيضا هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور ، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة ، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما ، وشكل العدس كأنه دائرة ، وشكل الحمص على وجه آخر . فهذه الأشكال المختلفة لابد وأن تكون لأسرار وحكم ، علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلى على ذلك الشكل . وأيضا فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى ، ومنفعة أخرى . وأيضا فقد تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان ، وسما لحيوان آخر ، فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال ، مع اتحاد الطبائع ، وتأثيرات الكواكب ، يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم .
وسادسها- أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة ، وجدت خطا واحدا مستقيما في وسطها ، كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان . وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة ، يمنة ويسرة ، في بدن الإنسان ، ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ، ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار ، بسبب الصغر - فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة ، وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى ، ولا يزال يبقى على هذا المنهج ، حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر . والخالق تعالى إنما فعل ذلك ، حتى إن القوى الجاذبة / المركوزة في جرم تلك الورقة ، تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة . فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة ، علمت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل ، وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل . ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان ، علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل . ولما عرفت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان ، علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل . ثم إنه تعالى إنما خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده ، والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة ، كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[3585]} . فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة ، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها ، حتى تعرف ان المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك الباب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية ، كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }{[3586]} . وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة في النواة . فهذا كلام مختصر في تفسير قوله تعالى : { إن الله فالق الحب والنوى } . ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له . ونسأل الله التوفيق والهداية . انتهى كلام الرازي رحمه الله تعالى . .
{ يخرج الحي من الميت } كالحيوان من النطفة ، والنبات الغض الطري من الحب اليابس ، { ومخرج الميت } كالنطفة والحب { من الحي } كالحيوان والنبات .
/ { ذلكم الله } أي : الفالق للحب والنوى ، والمخرج الحي من الميت وعكسه ، هو الله ، القادر العظيم الشأن ، المستحق للعبادة وحده .
{ فأنى تؤفكون } أي : تصرفون عنه إلى غيره .
قال الرازي : والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان ، فحصول المثل عن المثل ، يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . بل لابد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم ، والمدبر العليم .
ذهب الزمخشري ومن تبعه إلى قوله تعالى : { ومخرج الميت } عطف على { فالق } لا على { يخرج الحي } ، كقوله : { صافات ويقبضن }{[3587]} . والصحيح أنه معطوف على { يخرج الحي من الميت } واشتماله على زيادة فيه ، لا يضر ذلك بكونه بيانا . كما أن { مخرج الميت من الحي } بيان مع شموله للحيوان والنبات . وفيه من البديع التبديل ، كقوله تعالى : { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل }{[3588]} .
/ قال في ( الانتصاف ) : وقد وردا جميعا بصيغة الفعل كثيرا في قوله/ { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون }{[3589]} . وقوله : { أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي }{[3590]} فعطف أحد القسمين على الآخر ، كثيرا دليل على أنهما توأمان مقترنان ، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى { فالق الحب والنوى } . فالوجه- والله أعلم- أن يقال : كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله : { فالق الحب } و { فالق الإصباح } و { جاعل الليل } و { مخرج الحي من الميت } إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده ، وهو قوله : { يخرج الحي من الميت } إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت ، واستحضاره في ذهن السامع . وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن من أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل / والماضي . وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة }{[3591]} فعدل عن الماضي المطابق لقوله { أنزل } لهذا المعنى ، ومنه ما في قوله{[3592]} :
بأني قد لقيت الغول تهوى *** بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت*** صريعا لليدين وللجران
/ فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته ، واستحضارها لذهن السامع . ومنه { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ، والطير محشورة }{[3593]} فعدل عن ( مسبحات ) وإن كان مطابقا ل { محشورة } لهذا السبب – والله أعلم- . ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما يكون العناية به أقوى . ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه . وهو أيضا أول الحالين ، والنظر أول ما يبدأ فيه . ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي بان عنه ، فكان الأول جديرا بالتصدير والتأكيد في النفس ، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر ؛ حسب ترتيبهما في الواقع . وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه . أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع ، فكل واحد منهما يقدر بالآخر ، فلا جناح في عطفه عليه- والله أعلم- . انتهى .