194- فإذا اعتدوا عليكم في الشهر الحرام فلا تقعدوا عن قتالهم فيه فإنه حرام عليهم ، كما هو حرام عليكم ، وإذا انتهكوا حرمته عندكم فقابلوا ذلك بالدفاع عن أنفسكم فيه ، وفى الحرمات والمقدسات شرع القصاص والمعاملة بالمثل ، فمن اعتدى عليكم في مقدساتكم فادفعوا هذا العدوان بمثله ، واتقوا الله فلا تسرفوا في المجازاة والقصاص ، واعلموا أن الله ناصر المتقين .
قال عكرمة ، عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، ومِقْسَم ، والربيع بن أنس ، وعطاء وغيرهم : لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة ، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة ، وهو شهر حرام ، حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية ، هو ومن كان [ معه ]{[3411]} من المسلمين ، وأقَصه الله منهم ، فنزلت في ذلك هذه الآية : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا{[3412]} فإذا حضره أقام حتى ينسلخ{[3413]} .
هذا إسناد صحيح ؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو مُخَيِّم بالحديبية - أن عثمان قد قتل - وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين - بايع أصحابه ، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين ، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان .
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف ، عَدَل إليها ، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس{[3414]} . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانة ، حيث قسم غنائم حُنين . وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين : كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد ، ثم نسخ بآية الجهاد{[3415]} بالمدينة . وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير ، وقال : بل [ هذه ]{[3416]} الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة ، وعزا ذلك إلى مجاهد ، رحمه الله .
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص ، من باب المقابلة ، كما قال عمرو بن أم كلثوم :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لي استواء إن موالى استوا *** لي التواء إن تعادى التوا
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم*** ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
ومن رام تقويمي فإني مقوم*** ومن رام تعويجي فإني معوج
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به . { والحرمات قصاص } احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص . فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم . كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهو فذلكة التقرير . { واتقوا الله } في الأنصار { ولا تعتدوا } إلى ما لم يرخص لكم . { واعلموا أن الله مع المتقين } فيحرسهم ويصلح شأنهم .
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( 194 )
وقوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } الآية ، قال ابن عباس ومجاهد ومقسم( {[1789]} ) والسدي والربيع والضحاك وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء( {[1790]} ) وعام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية سنة ست ، فصده كفار قريش عن البيت ، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم ، فدخله سنة سبع ، فنزلت الآية في ذلك ، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه ، ومعنى { الحرمات قصاص } على هذا التأويل : أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد الشهر والقطان حين دخلتم .
وقال الحسن بن أبي الحسن : نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام ؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه ، فنزلت : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } ، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين ، فأية( {[1791]} ) سلكوا فاسلكوا ، و { الحرمات } على هذا جمع حرمة عموماً : النفس والمال والعرض وغير ذلك( {[1792]} ) ، فأباح الله بالآية مدافعتهم . والقول الأول أكثر( {[1793]} ) .
وقالت فرقة : قوله : { والحرمات قصاص } مقطوع مما قبله( {[1794]} ) ، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك( {[1795]} ) نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال .
وقالت طائفة : ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي( {[1796]} ) ذلك له ، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء ، قاله الشافعي وغيره ، وهي رواية في مذهب مالك( {[1797]} ) .
وقالت طائفة منهم مالك : ليس ذلك له( {[1798]} ) ، وأمور القصاص وقف على الحكام( {[1799]} ) ، والأموال يتناولها قول النبي صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك »( {[1800]} ) .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرْمات » بسكون الراء .
وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم } الآية ، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم ، وسمي الجزاء على العدوان عدواناً كما قال { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] إلى غير ذلك( {[1801]} ) ، { واتقوا الله } ، قيل : معناه في أن لا تعتدوا ، وقيل : في أن لا تزيدوا على المثل .
وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزَّ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار( {[1802]} ) » .
وقال مجاهد : «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهي من التدريج في الأمر بالقتال » .
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني ؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها . فإن كان هذا تشريعاً نازلاً على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم ، وإن كان نازلاً على سبب كما قيل : إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألاَّ يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام ، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية ، أو ما روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم حين اعتمر عمرة القضية : أنُهيِتَ يا محمدُ عن القتال في الشهر الحرام قال : نعم ، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة ، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام ، والتقدير حرمة الشهر الحرام ، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته .
وقيل : معنى قوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } ، أن قريشاً صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم : هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه ، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، يعني أنه من قبيل قولهم : « يوم بيوم والحرْب سجال » .
والباء في قوله : { بالشهر الحرام } للتعويض كقولهم : صاعاً بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان .
والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر ، لأنه يفيد حكماً عاماً ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية ، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية .
والأشهر الحرم أربعة : ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهاباً ورجوعاً وأداء ، وشهر واحد مفرد وهو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرَّمته مضر كلها ولذلك يقال له : رَجبُ مضر ، وقد أشير إليها في قوله تعالى : { منها أربعة حرم } [ التوبة : 36 ] .
وقوله : { والحرمات قصاص } تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحجة لما قبله من قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } الخ ، فالجملة تذييل والواو اعتراضية .
ومعنى كونها قصاصاً أي مماثلة في المجازاة والانتصاف ، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته ، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه ، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة ، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] ، والإخبار عن الحرمات بلفظ ( قصاص ) إخبار بالمصدر للمبالغة .
وقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } تفريع عن قوله : { والحرمات قصاص } ونتيجة له ، وهذا وجه قول « الكشاف » : إنه فذلكة ، وسُمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكلة على نحو ما تقدم آنفاً في قوله : { فلا عدوان إلا على الظالمين } [ البقرة : 193 ] .
وقوله : { بمثل ما اعتدى عليكم } يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام .
وقوله : { واتقوا الله } أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد ، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط .
وقوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما سيقوله ، فإن قولك في الخطاب : اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة الأنفال ( 24 ) ، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية ، ويجوز أن يكون المعنى : واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار : واعلموا أن الله مع المتقين فهو يجعلهم بمحل عنايته .