لما تضمن قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى آخر السياق ، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم{[8755]} والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب ، قال الله تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ } أي : وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك ، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو : القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ؛ ولهذا قال : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } أي : فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ، من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل ، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة ، التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، إلا أن يُعْلِمَه الله به ، كما قال [ تعالى ]{[8756]} { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [ البقرة : 255 ] ، وقال { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [ طه : 110 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الحسن بن سَهْل الجعفري وخَزَزُ بن المبارك قالا حدثنا عمران بن عيينة ، حدثنا عطاء بن السائب قال : أقرأني أبو عبد الرحمن السَّلمي القرآنَ ، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال : قد أخذتَ علم الله ، فليس أحدٌ اليوم أفضلَ منك إلا بعمل ، ثم يقرأ : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } وقوله { وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } أي : بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك ، مع شهادة الله تعالى لك بذلك { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
وقد قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من اليهود ، فقال لهم : " إني لأعلم - والله - إنكم لتعلمون أني رسول الله " . فقالوا : ما نعلم ذلك . فأنزل الله عز وجل : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ [ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ]{[8757]} } .
{ لكن الله يشهد } استدراك عن مفهوم ما قبله فكأنه لما تعنتوا علي بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء ، واحتج عليهم بقوله { إنا أوحينا إليك } قال : إنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد ، أو أنهم أنكروه ولكن الله يثبته ويقرره . { بما أنزل إليك } من القرآن المعجز الدال على نبوتك . روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت . { أنزله بعلمه } أنزله متلبسا بعلمه الخاص به ، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ ، أو بحال من يستعد للنبوة ويستاهل نزول الكتاب عليه ، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث حال من المفعول ، والجملة كالتفسير لما قبلها { والملائكة يشهدون } أيضا بنبوتك . وفيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر والتأمل ، وهذا النوع من خواص الملك ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر والنظر ، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا . { وكفى بالله شهيدا } أي وكفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره .
وقوله تعالى : { لكن الله يشهد } الآية ، سببها قول اليهود { ما ينزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] وقال بعضهم لمحمد عليه السلام : ما نعلم يا محمد أن الله أرسل إليك ولا أنزل عليك شيئاً ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والجراح الحكمي «لكنّ الله يشهد » بشد النون ونصب المكتوبة على اسم «لكن » وقوله تعالى : { أنزله بعلمه } هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى خلافاً للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم ، والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله ، ومذهب المعتزلة في هذه الآية أنه أنزله مقترناً بعلمه ، والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله ، ومذهب المعتزلة في هذه الآية أنه في قوله الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، معناه : من علم الله الذي بث في عباده ، وقرأ الجمهور «أَنزل » على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الحسن «أُنزل » بضم الهمزة على بنائه للمفعول ، وقوله تعالى : { والملائكة يشهدون } تقوية لأمر محمد عليه السلام ورد على اليهود ، قال قتادة : شهود والله غير متهمة ، وقوله تعالى : { وكفى بالله شهيداً } تقديره : وكفى الله شهيداً ، لكن دخلت الباء لتدل على أن المراد : اكتفوا بالله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.