يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فَلا تُطِعْ يا محمد المُكَذّبِينَ بآيات الله ورسوله { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } . اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ودّ المكذّبون بآيات الله لو تكفر بالله يا محمد فيكفرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يقول : ودّوا لو تكفر فيكفرون .
حُدثت عن الحسين ، فقال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال : تكفُر فيكفرون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَدّوا لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال : تكفر فيكفرون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ودّوا لو تُرخّص لهم فيُرخّصون ، أو تلين في دينك فيلينون في دينهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { لَو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يقول : لو ترخص لهم فيرخّصون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال : لو تَرْكَنُ إلى آلهتهم ، وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيمالئونك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يقول : ودّوا يا محمد لو أدهنت عن هذا الأمر ، فأدهنوا معك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال : ودّوا لو يُدْهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُدْهنون .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ودّ هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم ، فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً إذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ المَماتِ } وإنما هو مأخوذ من الدّهن شبه التليين في القول بتليين الدّهن .
وليس المراد أنهم ودُّوا ذلك في نفوسهم فأطْلَع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله : { فلا تطع المكذبين }
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبيء صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة .
فينتظم من هذا أن قوله { فلا تطع المكذبين } نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقْع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله : { فستبصُر ويبصرون بأيكم المفتون } إلى قوله : { بالمهتدين } [ القلم : 5 7 ] فلعلهم تحدثوا أو أوعَزُوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه { إنه لمجنون } [ القلم : 51 ] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحاً بينهم ويترك كلّ فريق فريقاً وما عبده .
والطاعة : قبول ما يُبتغَى عمله ، ووقوع فعل { تطع } في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم ، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى : { فلا تطع الكافرين وجَاهدهم به جهاداً كبيراً } [ الفرقان : 52 ] ، أي لا تلن لهم .
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإِيماء إلى وجه بناءِ الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته .
ومن هنا يتضح أن جملة { ودُّوا لو تُدهِنُ فيدهنون } بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف .
وفعل { تدهن } مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة ، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهناً إما لتليينه وإما لتلوينه ، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب ، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك ، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها .
والفاء في { فيدهنون } للعطف ، والتسبب عن جملة { لو تدهن } جواباً لمعنى التمني المدلول عليه بفعل { ودُّوا } بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك ، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار ( أنْ ) لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك ، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره : فهم يدهنون .
وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدماً على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص ، أي فالإِدهان منهم لا منك ، أي فاترك الإِدهان لهم ولا تتخلق أنت به ، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى : { فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } [ الجنّ : 13 ] ، أي فهو لا يخاف بخساً ولا رهقاً .
وحرف { لو } يحتمل أن يكون شرطياً ويكونَ فعل { تدهن } شرطاً ، وأن يكون جوابُ الشرط محذوفاً ويكون التقدير : لو تدهن لحصل لهم ما يودون . ويحتمل أن يكون { لو } حرفاً مصدرياً على رأي طائفة من علماء العربية أن { لو } يأتي حرفاً مصدرياً مثل ( أنْ ) فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير : ودوا إدهانك .
ومفعول { وَدُّوا } محذوف دل عليه { لو تدهن } ، أو هو المصدر بناء على أن { لو } تقع حرفاً مصدرياً ، وتقدم في قوله تعالى : { يوَدُّ أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) . وقد يفيد موقع الفاء تعليلاً لمودتهم منه أن يدهن ، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون ، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.