المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تضمنت هذه السورة الكريمة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته وتقوية عزيمته ليبقى مستمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، وتشبيه ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة الذين جاءت قصتهم فيها ، وتبشير المؤمنين بما لهم عند ربهم ، وعدم التسوية بينهم وبين الكافرين ، والإنكار على المكذبين فيما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وتخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، والنصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتمال ، وقد ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم .

1- ن : حرف من حروف المعجم التي بدئت بعض السور بها تحدياً للمكذبين وتنبيهاً للمصدقين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة " ن "

وهي مدنية .

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول " سورة البقرة " ، وأن قوله : { ن } كقوله : { ص } { ق } ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته .

وقيل : المراد بقوله : { ن } حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل{[29123]} للأرضين السبع ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :

حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان - هو الثوري - حدثنا سليمان - هو الأعمش - عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم قال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القَدَر . فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة . ثم خلق " النون " ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء ، وبسطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض{[29124]} .

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، به . وهكذا رواه شعبة ، ومحمد بن فُضَيل ، وَوَكِيع ، عن الأعمش ، به . وزاد شعبة في روايته : ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } وقد رواه شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان - أو مجاهد - عن ابن عباس ، فذكر نحوه . ورواه مَعْمَر ، عن الأعمش : أن ابن عباس قال . . . فذكره ، ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : إن أول شيء خلق ربي ، عز وجل ، القلم ، ثم قال له : اكتب . فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة . ثم خلق " النون " فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه{[29125]} .

وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال : حدثنا أبو حبيب{[29126]} زيد بن المهتدي المروذي{[29127]} حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما خلق الله القلم والحوت ، قال للقلم : اكتب ، قال : ما أكتب ، قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة " . ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } فالنون : الحوت . والقلم : القلم{[29128]} .

حديث آخر في ذلك : رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق " النون " وهي : الدواة . ثم قال له : اكتب . قال وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون - أو : ما هو كائن - من عمل أو رزق أو أثر أو أجل . فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ، ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ، ولأنقصنك ممن أبغضت " {[29129]} .

وقال ابن أبي نَجِيح : إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال : كان يقال : النون : الحوت [ العظيم ]{[29130]} الذي تحت الأرض السابعة .

وذكر البغوي وجماعة من المفسرين : إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض ، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن ، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن{[29131]} فالله أعلم . ومن العجيب{[29132]} أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

حدثنا إسماعيل ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس : أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأتاه فسأله عن أشياء ، قال : إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي ، قال : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه ؟ والولد ينزع إلى أمه ؟ قال : " أخبرني بهن جبريل آنفًا " . قال ابن سلام : فذاك عدو اليهود من الملائكة . قال : " أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم{[29133]} من المشرق إلى المغرب . وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت . وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت " .

ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد ، ورواه مسلم أيضا{[29134]} وله من حديث ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحو هذا . وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان : أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل ، فكان منها أن قال : فما تحفتهم ؟ - يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة - قال : " زيادة كبد الحوت " . قال : فما غذاؤهم على أثرها ؟ قال : " ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها " . قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : " من عين فيها تسمى سلسبيلا " {[29135]} .

وقيل : المراد بقوله : { ن } لوح من نور .

قال ابن جرير : حدثنا الحسين بن شبيب المكتب ، حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قُرّة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } لوح من نور ، وقلم من نور ، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة " {[29136]} وهذا مرسل غريب .

وقال ابن جُرَيج{[29137]} أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام .

وقيل : المراد بقوله : { ن } دواة ، والقلم : القلم . قال ابن جرير :

حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة في قوله : { ن } قالا هي الدواة .

وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خلق الله النون ، وهي الدواة " {[29138]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، حدثنا ثابت الثمالي ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم ، فقال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول ، به بر أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام . ثم ألزم كل شيء من ذلك ، شأنه : دخوله في الدنيا ، ومقامه فيها كم ؟ وخروجه منها كيف ؟ ثم جعل على العباد حفظة ، وللكتاب خزانًا ، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا . قال : فقال ابن عباس : ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل{[29139]} .

وقوله : { والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العاق : 3 - 5 ] . فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : يعني : وما يكتبون .

وقال أبو الضُّحى ، عن ابن عباس : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : وما يعملون .

وقال السدي : { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد .

وقال آخرون : بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر ، حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة . وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم ، فقال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي ، عن عطاء - هو ابن أبي رباح - حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال : دعاني أبي حين حضره الموت فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب . قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر [ ما كان ]{[29140]} وما هو كائن إلى الأبد " .

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به{[29141]} وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، به{[29142]} وقال : حسن صحيح غريب . ورواه أبو داود في كتاب " السنة " من سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن يحيى بن حسان ، عن ابن رباح ، عن إبراهيم بن أبي عبلة{[29143]} عن أبي حفصة - واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي - عن عبادة ، فذكره{[29144]} .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا رباح بن زيد ، عن عمر بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بَزة{[29145]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء " . غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجوه{[29146]}

وقال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : { وَالْقَلَمِ } يعني : الذي كتب به الذكر . .

وقوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : يكتبون كما تقدم .


[29123]:- (1) في أ: "وهو الحامل".
[29124]:- (2) تفسير الطبري (29/9).
[29125]:- (3) تفسير الطبري (29/10).
[29126]:- (1) في أ: "أبو صهيب".
[29127]:- (2) في أ: "المهدى".
[29128]:- (3) المعجم الكبير (11/433) وقال: "لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل". ومؤمل كثير الخطأ، فلعله أخطأ في رفعه.
[29129]:- (4) تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط" ) ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (1/454) من طريق يحيى الغساني، عن أبي عبد الله، عن أبي صالح، به. ورواه ابن عدي في الكامل (6/269) من طريق محمد بن وهب، عن مسلم، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه، قال: "هذا بهذا الإسناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب. قال الذهبي في الميزان: "صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
[29130]:- (5) زيادة من م.
[29131]:- (6) معالم التنزيل (8/186) وهذا من الإسرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه: "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص305) وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص76) في ذكر علامات الوضع: "أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على بطلانه، ومن هذا حديث: "إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه الهذيانات". أ. هـ.
[29132]:- (7) في أ: "ومن العجب".
[29133]:- (8) في أ: "تحشر الناس".
[29134]:- (1) المسند (3/189) وصحيح البخاري برقم (3938) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
[29135]:- (2) صحيح مسلم برقم (315).
[29136]:- (3) تفسير الطبري (29/10).
[29137]:- (4) في أ: "ابن جرير".
[29138]:- (5) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط") من طريق الفريابي، عن هشام عن الحسن بن يحيى به مطولاً، وقد تقدم قريبًا في هذه السورة.
[29139]:- (6) تفسير الطبري (29/10).
[29140]:- (1) زيادة من منحة المعبود. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
[29141]:- (2) المسند (5/317).
[29142]:- (3) سنن الترمذي برقم (3319).
[29143]:- (4) في أ: "عن ابن أبي عبلة".
[29144]:- (5) سنن أبي داود برقم (4700).
[29145]:- (6) في أ: "بن أبي مرة".
[29146]:- (7) تفسير الطبري (29/11).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ن ، فقال بعضهم : هو الحوت الذي عليه الأرَضُون . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء ، فخلقت منه السموات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون ، فتحرّكت الأرض فمادت ، فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض » ، قال : وقرأ : ن والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، أو مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه ، إلا أنه قال : فَفُتِقَتْ مِنْهُ السموات .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله القلم ، قال : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال : فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون ، ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء وبُسِطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .

حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فُضَيل ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة ، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات ، ثم خلق النون فدُحيت الأرض على ظهره ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأُثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .

حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس نحوه .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، أن إبراهيم بن أبي بكر ، أخبره عن مجاهد ، قال : كان يقال النون : الحوت الذي تحت الأرض السابعة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : قال معمر . حدثنا الأعمش ، أن ابن عباس قال : إنْ أوّل شيء خُلق القلم ، ثم ذكر نحو حديث واصل عن ابن فضيل ، وزاد فيه : ثم قرأ ابن عباس ن وَالقَلم وَما يَسْطُرُونَ .

حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن ابن عباس ، قال : إن أوّل شيء خلق ربي القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم خلق النون فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه .

وقال آخرون : ن حرف من حروف الرحمن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الله بن أحمد المروزي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون حروف الرحمن مقطعة .

حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله : الر ، وحم ، ون قال : اسم مقطع .

وقال آخرون : ن : الدواة ، والقلم : القلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، عن ثابت البناني ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب ، فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، من عمل معمول ، برّ أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم ، وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا ، فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر ، وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا قال : فقال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفَظة يقولون : إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ؟ .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله ن قال : هو الدواة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن قتادة ، قال : النون الدواة .

وقال آخرون : ن : لوح من نوره ، ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن شبيب المكتّب ، قال : حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قرّة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ن وَالقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ : «لوح من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة » .

وقال آخرون : ن : قَسَم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } يُقْسِم الله بما شاء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } قال : هذا قسم أقسم الله به .

وقال آخرون : هي اسم من أسماء السورة .

وقال آخرون : هي حرف من حروف المعجم ، وقد ذكرنا القول فيما جانس ذلك من حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل السور ، والقول في قوله نظير القول في ذلك .

واختلفت القرّاء في قراءة : ن ، فأظهر النون فيها وفي يس عامة قرّاء الكوفة خلا الكسائيّ ، وعامة قرّاء البصرة ، لأنها حرف هجاء ، والهجاء مبني على الوقوف عليه وإن اتصل ، وكان الكسائي يُدغم النون الآخرة منهما ويخفيها بناء على الاتصال .

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان ، بأيتهما قرأ القارىء أصاب ، غير أن إظهار النون أفصح وأشهر ، فهو أعجب إليّ . وأما القلم : فهو القلم المعروف ، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام : القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة .

حدثني محمد بن صالح الأغاطي ، قال حدثنا عباد بن العوّام ، قال : حدثنا عبد الواحد بن سليم ، قال : سمعت عطاء ، قال : سألت الوليد بن عبادة بن الصامت : كيف كانت وصية أبيك حين حشره الموت ؟ فقال : دعاني فقال : أي بنيّ اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدرِ خيره وشرّه ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ خَلَقَ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قالَ : يا رَبّ ومَا أكْتُبْ ؟ قالَ : اكْتُبَ القَدَرَ ، قالَ : فَجَرَى القَلَمُ فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا كانَ ، ومَا هُوَ كائِنٌ إلى الأبَدِ » .

حدثني محمد بن عبد الله الطوسي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا رباح بن زيد ، عن عمرو بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أوّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، وأمَرَهُ فَكَتَبَ كُلّ شَيْءٍ » .

حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس : إن ناسا يكذّبون بالقدر ، فقال : إنهم يكذّبون بكتاب الله ، لأخذنّ بشَعْر أحدهم ، فلا يقصّن به ، إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا ، فكان أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإنما يجري الناس على أمر قد فُرِغ منه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو هاشم ، أنه سمع مجاهدا ، قال : سمعت عبد الله لا ندري ابن عمر أو ابن عباس قال : إن أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى القلم بما هو كائن وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فُرِغ منه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية بن صالح وحدثني عبد الله بن آدم ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح ، عن أيوب بن زياد ، قال : ثني عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : أخبرني أبي ، قال : قال أبي عُبادة بن الصامت : يا بنيّ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا هُوَ كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ن وَالقَلَمِ قال : الذي كُتِبَ به الذكر .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، أخبره عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد ، في قوله : ن والقَلَمِ قال : الذي كتب به الذكر .

وقوله : ومَا يَسْطُرُون ، يقول : والذي يخُطّون ويكتبون . وإذا وُجّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم . وقد يحتمل الكلام معنى آخر ، وهو أن يكون معناه : وسطرهم ما يسطرون ، فتكون «ما » بمعنى المصدر . وإذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه ، كان القسم بالكتاب ، كأنه قيل : ن والقلم والكتاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَسْطُرُونَ قال : وما يَخُطّون .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ومَا يَسْطُرُونَ ، يقول : يكتبون .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ومَا يَسْطُرُون ، قال : وما يكتبون .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومَا يَسْطُرُونَ : وما يكتبون .

يقال منه : سطر فلان الكتاب فهو يَسْطُر سَطْرا : إذا كتبه ومنه قول رُؤبة بن العجّاج :

*** إنّي وأسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ***

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي صحيح البخاري { سورة ن~ والقلم } على حكاية اللفظين الواقعين في أولها ، أي سورة هذا اللفظ .

وترجمها الترمذي في جامعه وبعض المفسرين سورة { ن~ } بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة { ص~ } وسورة { ق~ } .

وفي بعض المصاحف سميت { سورة القلم } وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس .

وهي مكية قال ابن عطية : لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل .

وذكر القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : أولها مكي ، إلى قوله { على الخرطوم } ، ومن قوله { إنا بلوناهم } إلى { لو كانوا يعلمون } مدني ، ومن قوله { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } إلى قوله { فهم يكتبون } مكي ومن قوله { فاصبر لحكم ربك } إلى قوله { من الصالحين } مدني ، ومن قوله { وإن يكاد الذين كفروا } إلى آخر السورة مكي .

وفي الإتقان عن السخاوي : أن المدني منها من قوله { إنا يلوناهم } إلى { لو كانوا يعلمون } ومن قوله { فاصبر لحكم ربك } إلى قوله { من الصالحين } فلم يجعل قوله { إن للمتقين عند ربهم } إلى قوله { فهم يكتبون } مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس .

وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال : نزلت بعد سورة { اقرأ باسم ربك } وبعدها سورة المزمل ثم سورة المدثر ، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت « سورة المدثر » .

وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة { اقرأ ياسم ربك } جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها .

وفي تفسير القرطبي : أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل .

واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين .

أغراضها

جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح .

وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله { والقلم وما يسطرون } .

وابتدئت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين .

وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم .

وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته .

وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن .

ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم ، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم .

وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام ، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة .

ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم . وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها .

وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه ، وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام .

افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء .

ورَسمُوا حرف { ن } بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو { نُون } ( بنونٍ بعدها واو ثم نون ) وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته ، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا ، وياء ، وفَاء ، ولا ترسم صورة سَيْف .

وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة .

ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها ، وكذلك قرىء في القراءات المتواترة .

{ والقلم وما يسطرون }

يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى .

والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون ، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله . وعن مجاهد وقتادة : أنه القلم الذي في قوله تعالى { الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } . قلت : وهذا هو المناسب لقوله { وما يسطرون } في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب .

ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام ، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه . وتعريف { القلم } تعريف الجنس .

فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى .

وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } .

و{ ما يسطرون } هي السطور المكتوبة بالقلم و{ ما } يجوز أن تكون موصولة ، أي وما يكتبونه من الصحف ، ويجوز أن تكون مصدرية . والمعنى : وسطرهم الكتابة سطورا .

ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن ، { وما يسطرون } قسما بكتابتهم ، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى { والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا } في سورة الزخرف . وتنظيره بقول أبي تمام :

وثناياك إنها أغريض *** البيت

ويسطرون : مضارع سطر ، يقال : سطر من باب نصر ، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة . وأصله مشتق من السطر وهو القطع ، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع .

وضمير { يسطرون } راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة ، والمقصود : المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول . فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين ، فكأنه قيل : والمسطور ، نضير قوله تعالى { وكتاب مسطور في رق منشور } .

ومن فسر { القلم } بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير { يسطرون } راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك ، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير .

وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون ، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب .

والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام : هو مجنون ، وذلك ما شافهوا به النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون } . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله { وما صاحبكم بمجنون } . وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه .

والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون ، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه .

وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف { إن } ولام الابتداء إذ قالوا { إنه لمجنون } بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر ، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات .