يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ، فقال تعالى : ولا يحزنك ذلك { إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ } أي : حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
{ وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
يقول جلّ ثناؤه : ولا يحزنك يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدّين على أعقابهم من أهل النفاق ، فإنهم لن يضرّوا الله بمسارعتهم في الكفر شيئا ، كما أن مسارعتهم لو سارعوا إلى الإيمان لم تكن بنافعته ، كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارّته . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلا يَحزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفرِ } يعني : هم المنافقون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلا يَحزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفرِ } أي المنافقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ أنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فِي الاَخِرَةِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر نصيبا في ثواب الاَخرة ، فلذلك خذلهم ، فسارعوا فيه . ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الاَخرة ، لهم عذاب عظيم في الاَخرة ، وذلك عذاب النار . وقال ابن إسحاق في ذلك بما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { يُرِيدُ اللّهُ أنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فِي الاَخِرَةِ } : أن يحبط أعمالهم .
وقرأ نافع وحده «يُحزنك » بضم الياء من أحزن ، وكذلك قرأ في جميع القرآن ، إلا في سورة الأنبياء { لايحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] فإنه فتح الياء ، وقرأ الباقون «يَحزنك » بفتح الياء من قولك حزنت الرجل ، قال سيبويه : يقال حزن الرجل وفتن إذا أصابه الحزن والفتنة ، وحزنته وفتنته ، إذا جعلت فيه وعنده حزناً وفتنة ، كما تقول : دهنت وكحلت ، إذا جعلت دهناً وكحلاً ، وأحزنته وأفتنته ، إذا جعلته حزيناً وفاتناً ، كما تقول : أدخلته وأسمعته ، هذا معنى قول سيبويه والمسارعة في الكفر هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك ، وقرأ الحر النحوي{[3727]} «يسرعون » في كل القرآن وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده ، ولذلك قالوا- كل مجرٍ بالخلاء يسر-{[3728]} ، وسلَّى الله نبيه بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهدين إذ كلهم مسارع ، وقوله تعالى : { إنهم لن يضروا الله شيئاً } خبر في ضمنه وعيد لهم أي : إنما يضرون أنفسهم ، والحظ إذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير ، ألا ترى قوله تعالى :
{ وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }{[3729]} .
نهي للرسول عن أن يحزن من فعل قوم يحرصون على الكفر أي على أعماله ومعنى { يسارعون في الكفر } يتوغّلون فيه ويَعجَلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص ، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس ، فعبّر عن هذا المعنى بقوله : { يسارعون } ، فقيل : ذلك من التضمين ضمّن يسارعون معنى يقعون ، فعدّي بفي ، وهي طريقة « الكشاف » وشروحه ، وعندي أنّ هذا استعارة تمثيلية : شبّه حال حرصهم وجدّهم في تفكير الناس وإدخال الشكّ على المؤمنين وتربّصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع الى تحصيل شيء يخشى أن يَفوته وهو متوغّل فيه متلبس به ، فلذلك عدّي بفي الدالة على سرعتهم سرعة طالب التمكين ، لا طالب الحصول ، إذ هو حاصل عندهم ولو عدّي بإلى لفهم منه أنّهم لم يكفروا عند المسارعة . قيل : هؤلاء هم المنافقون ، وقيل : قوم أسلموا ثم خافوا من المشركين فارتدّوا .
وجملة { إنهم لن يضروا الله شيئاً } تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم الى الكفر بعلّة يوقن بها الرسول عليه الصلاة والسلام . وموقع إنّ في مثل هذا المقام إفادة التعليل ، وإنّ تُغني غناء فاء التسبّب ، كما تقدّم غير مرّة .
ونفي { لن يضروا الله } مراد به نفي أن يعطّلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول إظهار دينه على الدّين كلّه ، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك ، نهي الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة ، وبيّن له أنّهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله ، تذكيراً له بأنه وعده بأنّه متمّ نوره .
ووجه الحاجة الى هذا النهي : هو أنّ نفس الرسول ، وإن بلغت مرتقى الكمال ، لا تعدو أن تعتريها في بعض أوقات الشدّة أحوال النفوس البشرية : من تأثير مظاهر الأسباب ، وتوقّع حصول المسبّبات العادية عندها ، كما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر . وهو في العريش ، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله . وقرأ الجمهور : يَحْزُنك بفتح الياء وضمّ الزاي من حَزَنَه إذا أدخل عليه الحزن ، وقرأه نَافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه .
وجملة { يريد الله } استئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة ، بعد أن بيّن السلامة من كيدهم في الدنيا والمعنى : أنّ الله خذلهم وسلبهم التوفيق فكانوا مسارعين في الكفر لأنّه أراد أن لا يكون لهم حظّ في الآخرة . والحظّ : النصيب من شيء نافع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.