إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

{ وَلاَ يَحْزُنكَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذانِ بأصالته في تدبير أمورِ الدينِ والاهتمامِ بشؤونه { الذين يسارعون في الكفر } أي يقعون فيه سريعاً لغاية حرصِهم عليه وشدةِ رَغبتِهم فيه ، وإيثارُ كلمةِ { في } على ما وقع في قوله تعالى : { سَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ } [ آل عمران ، الآية 133 ] الآية ، للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يسارعون فِي الخيرات } [ آل عمران ، الآية 133 ] فإن ذلك مؤذِنٌ بملابستهم للخيرات وتقلّبِهم في فنونها في طرفي المسارعةِ وتضاعيفِها ، وأما إيثار كلمة { إلى } في قوله تعالى : { وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ من رَبّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ المؤمنون ، الآية 61 ] الخ ، فلأن المغفرةَ والجنةَ منتهى المسارعةِ وغايتُها ، والمرادُ بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفةٌ من اليهود حسبما عُيِّن في قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قَالُوا آمَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُوا } [ المائدة ، الآية 41 ] وقيل : قوم ارتدوا عن الإسلام ، والتعبيرُ عنهم بذلك للإشارة بما في حيز الصلةِ إلى مَظِنة وجودِ المنهيِّ عنه واعترائِه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يَحْزُنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتِهم إلى تنفيذ أحكامِه ومُظاهرتِهم لأهله ، وتوجيهُ النهي إلى جهتهم مع أن المقصودَ نهيُه عليه الصلاة والسلام عن التأثر منهم للمبالغة في ذلك لما أن النهيَ عن التأثير نهيٌ عن التأثّر بأصله ونفيٌ له بالمرة ، وقد يُوجِّه النهيُ إلى اللازم والمرادُ هم النهيُ عن الملزوم كما في قولك : لا أُرَينّك هاهنا . وقرئ لا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسر الزاء ، والمعنى واحدٌ ، وقيل : معنى حزَنه جعل فيه حُزْناً كما في دهَنه أي جعل فيه دُهْناً ومعنى أحزنه جعله حزيناً ، وقيل : معنى حزَنه أحدث له الحزَن ومعنى أحزنه عرَّضه للحُزْن . { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا الله } تعليلٌ للنهي وتكميلٌ للتسلية بتحقيق نفيِ ضررِهم أبداً ، أي لن يضروا بذلك أولياءَ الله البتةَ ، وتعليقُ نفي الضررِ به تعالى لتشريفهم والإيذانِ بأن مُضارَّتَهم بمنزلة مضارَّتِه سبحانه ، وفيه مزيدُ مبالغةٍ في التسلية ، وقوله تعالى : { شَيْئاً } في حيز النصبِ على المصدرية أي شيئاً من الضرر ، والتنكيرُ لتأكيد ما فيه من القلة والحقارةِ ، وقيل : على نزع الجارِّ أي بشيء ما أصلاً ، وقيل : المعنى لن يَنقصُوا بذلك من مُلكه تعالى وسلطانِه شيئاً كما روى أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يقول الله تعالى : «لو أنَّ أولَكم وآخِرَكم وجِنّكم وإنسَكُم كانوا على قلب أتقى رجُلٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلكي شيئاً . ولو أنَّ أولَكم وآخرَكم وجنَّكُم وإنسَكُم كانوا على قلب أفجرِ رجلٍ منكم ما نَقَصَ ذلكَ من مُلكي شيئاً » والأولُ هو الأنسبُ بمقام التسليةَ والتعليل . { يُرِيدُ الله أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً في الآخرة } استئنافٌ مبينٌ لسرّ ابتلائهم بما هم فيه من انهماكٍ في الكفر ، وفي ذكر الإرادةِ -من الإيذان بكمال خلوصِ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبِهم حيث تعلّقت بهما إرادةُ أرحمِ الراحمين ما لا يخفي ، وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على دوام الإرادةِ واستمرارِها ، أي يريد الله بذلك أن لا يجعلَ لهم في الآخرة حظاً ما من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلِكوا على الكفر { وَلَهُمْ } مع ذلك الحِرمانِ الكلي { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقادَرُ قدرُه ، قيل : لمّا دلت المسارعةُ في الشيء على عِظَم شأنِه وجلالةِ قدرِه عند المسارِعِ وُصف عذابُه بالعِظَم رعايةً للمناسبة وتنبيهاً على حقارة ما سارعوا فيه وخساستِه في نفسه ، والجملةُ إما مبتدَأةٌ مبيِّنةٌ لحظهم من العقاب إثرَ بيانِ أن لا شيءَ لهم من الثواب ، وإما حالٌ من الضمير في لهم أي يريد الله حِرمانَهم من الثواب مُعدّاً لهم عذابٌ عظيم .