التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

ثم أخذ القرآن فى تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما يراه من كفر الكافرين . وعناد المعاندين ، وفى بيان أن كفر الكافر إنما يعود عليه ضرره لا على غيره ، وأنه - سبحانه - يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، وأن حكمته - سبحانه - تقتضى تمييز الخبيث من الطيب . فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين . . . } .

الخطاب فى قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } للنبى صلى الله عليه وسلم والمقصود منه تسليته وإدخال الطمأنينة على قلبهن حتى لا يتأثر بما يراه من كفر الكافرين ، ونفاق المنافقين ، وفسق الفاسقين .

أى : لا يحزنك ولا يُثِر فى نفسك الحسرات يا محمد ، حال أولئك القوم الذين { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } أى يتوغلون فيه ، ويتعجلون فى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص ، ويقعون فيه سريعا من تريث أو تدبر أو تفكير والمقصود بالنهى عن الحزن ، النهى عن الاسترسلا فيه وفى الأسباب التى تؤدى إليه ، كأن يظن صلى الله عليه وسلم أن كثرة الضالين ستؤدى إلى انتصارهم على المؤمنين .

وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف فقال : { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } يقعون فيه سريعا ، ويرغبون فيه أشد رغبة . وهم الذين نافقوا من المتخلفين . وقيل : هم قوم ارتدوا عن الإسلام . فإن قلت : فما معنى قوله { وَلاَ يَحْزُنكَ } ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد ؟ قلت : معناه : لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك " .

ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بحرف " فى " دون حرف " إلى " الشائع تعديتها بها كما فى قوله - تعالى - { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وقوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } تعليل للنهى عن أن يحزنه تسارعهم فى الكفر أى : لا يحزنك يا محمد حال هؤلاء المارقين الذين يسارعون فى الكفر وينتقلون فيه من دركة إلى دركة أقبح من سابقتها ، فإنهم مهما تمادوا فى كفرهم وضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم ، فإنهم لن يضروا دين الله أو أولياءه بشىء من الضرر حتى ولو كان ضرراً يسيراً .

ففى الكلام حذف مضاف والتقدير إنهم لن يضروا أولياء الله شيئا .

وفى هذا الحذف تشريف للمؤمنين الصادقين ، وإشعار بأن مضارتهم بمنزلة مضارته - سبحانه - وفى الحديث القدسى : " من عادى لى وليا فقد آذنته بحرب " .

ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم بمقتضى طبيعته البشرية ، وغيرته على دين الله - تعالى - يحزن لإعراض المعرضين عن الحق الذى جاء به ، ولقد حكى القرآن ذلك فى كثير من آياته ، ومنه قوله - تعالى - { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وقوله - تعالى - { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } فأراد - سبحانه - فى هذه الآية الكريمة وأمثالها أن يزيل من نفس رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الحزن الذى نتج عن كفر الكافرين ، وأن يطمئنه إلى أن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين الصادقين .

وقوله { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة } استئناف لبيان جزائهم على كفرهم فى الآخرة ، بعد أن بين - سبحانه - عدم إضرارهم لأوليائه فى الدنيا .

أى : لا ينبغى لك يا محمد أن تحزن لمسارعة هؤلاء الضالين فى الكفر ، فإنهم لن يضروا أوليائى بشىء من الضرر ، ولأن كفرهم ليس مراغمة لله حتى تحزن ، وإنما هو بإرادته ، لأنه أراد ألا يكون لهم حظ أو نصيب من الخير فى الآخرة بسبب استحبابهم العمى على الهدى ، ولهم مع هذا الحرمان من الخير فى الآخرة { عَذَابٌ عَظِيمٌ } لا يعلم مقدار آلامه وشدته إلا الله تعالى .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : هلا قيل : لا يجعل الله لهم حظا فى الآخرة ، وأى فائدة فى ذكر الإرادة ؟ قلت : فائدته الإشعار بأن الداعى إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط حين سارعوا فى الكفر ، تنبيها على تماديهم فى الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى إن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم " .