المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

181- ومع أن الله له ملك السماوات والأرض وميراثهما ، فقد قال بعض اليهود متهكمين : إن الله فقير يطلب منا أن نقرضه بالإنفاق ، ونحن أغنياء ننفق أو لا ننفق ، لقد سمع الله قولهم هذا وسجَّل عليهم ذلك القول كما سجل عليهم قتلهم الأنبياء ظلماً وإثماً وعدواناً ، وسيقول لهم يوم القيامة : ذوقوا عذاب النار المحرقة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : يا محمد ، افتَقَرَ ربّك . يَسأل{[6271]} عباده القرض ؟ فأنزل الله : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية . رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بيت المدراس ، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فِنْحَاص{[6272]} وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حَبْرٌ يقال له : أشيع . فقال أبو بكر : ويحك يا فِنْحَاص{[6273]} اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله - يا أبا بكر - ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير . ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه{[6274]} ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فضرب وجه فِنْحَاص ضربًا شديدًا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصر{[6275]} ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْت ؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عَدُوَّ الله قد قال قولا عظيما ، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله مما قال ، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص{[6276]} وقال : ما قلتُ ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي بكر : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية . رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } تهديد ووعيد ؛ ولهذا قرنه بقوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : يقال{[6277]} لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا .


[6271]:في ر، و: "فسأل".
[6272]:في ر: "فيحاص".
[6273]:في ر: "فيحاص".
[6274]:في أ، و: "يعطينا".
[6275]:في جـ، ر، أ، و: "فقال: يا محمد، أبصر".
[6276]:في ر: "فيحاص".
[6277]:في جـ، أ، و: "فقال".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .

ذكر أن هذه الاَية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود ، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الاَثار بذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أنه حدثه ، عن ابن عباس ، قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدارس ، فوجد من يهود ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، كان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له : أشيع . فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص : ويحك يا فنحاص ، اتق الله وأسلم ! فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ! قال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا . فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله ، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ! فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : «ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ ؟ » فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيما ، زعم أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه . فجحد ذلك فنحاص ، وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص ردّا عليه وتصديقا لأبي بكر : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ } وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : { لتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، قال : دخل أبو بكر ، فذكر نحوه ، غير أنه قال : وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغنيّ ، ولو كان غنيا¹ ثم ذكر سائر الحديث نحوه .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغْنِيَاءُ } قالها فنحاص اليهودي من بني مرثد ، لقيه أبو بكر فكلمه ، فقال له : يا فنحاص ، اتق الله وآمن وصدق ، وأقرض الله قرضا حسنا ! فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا فقير ، يستقرضنا أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقير من الغني ، إن كان ما تقول حقا ، فإن الله إذا لفقير . فأنزل الله عزّ وجلّ هذا ، فقال أبو بكر : فلولا هدنة كانت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين بني مرثد لقتلته .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صكّ أبو بكر رجلاً منهم الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء لمَ يستقرضنا وهو غنيّ وهم يهود .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، قال الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، لم يستقرضنا وهو غنيّ ؟ قال شبل : بلغني أنه فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال : إن الله ثالث ثلاثة ، ويد الله مغلولة .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثني يحيى بن واضح ، قال : حدثت عن عطاء ، عن الحسن ، قال : لما نزلت : { مَنْ الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا } قالت اليهود : إن ربكم يستقرض منكم ! فأنزل الله : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياء } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن الحسن البصري ، قال : لما نزلت : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا } قال : عجبت اليهود فقالت : إن الله فقير يستقرض ، فنزلت : { لَقَدَ سَمِعَ اللّهُ قوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياءُ } .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونحْنُ أغْنِياءُ } ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافا كَثِيرَةً } قال : يستقرضنا ربنا ، إنما يستقرض الفقير الغنيّ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبر نا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما نزلت : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا } قالت اليهود : إنما يستقرض الفقير من الغنيّ ، قال : فأنزل الله : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنْحنُ أغْنِياءُ } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونحْنُ أغْنِياءُ } قال : هؤلاء اليهود .

فتأويل الاَية إذا : لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود : إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه ، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم وقتلهم أنبياءهم بغير حقّ .

واختلفت القراء في قراءة قوله : { سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمْ } فقرأ ذلك قراء الحجاز وعامة قراء العراق : { سَنَكْتُبُ ما قَالُوا } بالنون ، { وَقَتْلَهُمْ الأنْبِيَاءَ بِغَيْر حَقّ } بنصب القتل . وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين : «سَيُكْتَبُ ما قالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ » بالياء من سيكتب ، وبضمها ورفع القتل على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، اعتبارا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله : «ونقول ذوقوا » ، يذكر أنها في قراءة عبد الله : «ويقال »¹ فأغفل قارىء ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تنسب إلى عبد الله ، وخالف الحجة من قراء الإسلام . وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ : «سيُكْتَبُ ما قالوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِياء » على وجه ما لم يسمّ فاعله ، أن يقرأ : ويقال ، لأن قوله : «ونقول » عطف على قوله : «سنكتب » .

فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرأ جميعا على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، أو على مذهب ما يسمى فاعله ، فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، والاَخر على وجه ما قد سمي فاعله من غير معنى ألجأه على ذلك ، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { سَنَكْتُبُ } بالنون { وَقَتْلَهُمُ } بالنصب لقوله : «ونقول » ، ولو كانت القراءة في «سَيُكْتَبُ » بالياء وضمها ، لقيل : «ويقال » ، على ما قد بينا .

فإن قال قائل : كيف قيل : { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ } وقد ذكرت الاَثار التي رويت ، أن الذين عنوا بقوله : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ } بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن من أولئك أحد قتل نبيا من الأنبياء ، لأنهم لم يدركوا نبيا من أنبياء الله فيقتلوه ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما قيل ذلك كذلك لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الاَية كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء ، وكانوا منهم ، وعلى منهاجهم ، من استحلال ذلك واستجازته . فأضاف جلّ ثناؤه فعل ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته إلى جميعهم ، إذ كانوا أهل ملة واحدة ، ونحلة واحدة ، وبالرضا من جميعهم فعل ما فعل فاعل ذلك منهم على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل .

القول في تأويل قوله : { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيكُمْ وأنّ اللّهَ لَيْسَ بِظلاّمٍ للْعَبيِد } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ونقول للقائلين بأن الله فقير ونحن أغنياء ، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة : ذوقوا عذاب الحريق ، يعني بذلك : عذاب نار محرقة ملتهبة ، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة ، وإنما الحريق صفة لها ، يراد أنها محرقة ، كما قيل : «عَذَاب ألِيمٌ » يعني : مؤلم ، و«وجيع » يعني : موجع .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

{ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } قالته اليهود لما سمعوا { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } . وروي ( أنه صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص بن عازوراء : إن الله فقير حتى سأل القرض ، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه وقال : لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله ) فنزلت . والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب عليه . { سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق } أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله عز وجل واستهزاء بالقرآن والرسول ، ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء ، وفيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول . وقرأ حمزة " سيكتب " بالياء وضمها وفتح التاء وقتلهم بالرفع ويقول بالياء . { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } أي وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق ، وفيه مبالغات في الوعيد . والذوق إدراك الطعوم ، وعلى الاتساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره ها هنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

استئناف جملة { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } لمناسبة ذكر البخل لأنّهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات ، والذين قالوا ذلك هم اليهود ، كما هو صريح آخر الآية في قوله : { وقتلهم الأنبياء بغير حق } ، وقائل ذلك : قيل هو حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ اليهودي ، حَبر اليهود ، لمّا سمع قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض اللَّه قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] فقال حُيَيّ : إنّما يستقرض الفقيرُ الغنيَّ ، وقيل : قاله فِنحَاص بن عَازورَاء لأبي بكر الصديق بسبب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر إلى يهود قَيْنُقاع يدعوهم ، فأتى بيت المِدْرَاس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حَبْرِهم ، فدعاه أبو بكر ، فقال فنحاص : ما بنا إلى الله من حاجة ، وإنّه إلينا لفقير ولو كان غنيّاً لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهمّ بقتله ، فنزلت الآية . وشاع قولهما في اليهود .

وقوله : { لقد سمع الله } تهديد ، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة ، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن ، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة ، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر ، ولذلك قال تعالى : { لقد سمع } المستعمل في لازم معناه ، وهو التهديد على كلام فاحش ، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله : { سنكتب ما قالوا } . والمراد بالكتابة إمّا كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات ، وهذا بعيد ، لأنّ وجود علامة الاستقبال يؤذّن بأنّ الكتابة أمر يحصل فيما بعد . فالظاهر أنّه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة . فعلى الأول يكون وعيداً وعلى الثاني يكون تهديداً .

وقرأ الجمهور { سنكتب ما قالوا وقتلَهم } بنون العظمة من ( سنكتب ) وبنصب اللام من ( قتلهم ) على أنّه مفعول ( نكتب ) و ( نقول ) بنون . وقرأه حمزة : سيُكْتب بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية مبنيّاً للنائب لأنّ فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى ، وبرفع اللام من ( قتلُهم ) على أنه نائب الفاعل . ( ويقول ) بياء الغائب ، والضمير عائد الى اسم الجلالة في قوله : { إن الله } .

وعطف قوله : { وقتلهم الأنبياء بغير حق } زيادة في مذمّتهم بذكر مساوي أسلافهم ، لأنّ الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا : { إن الله فقير ونحن أغنياء } بل هم من أسلافهم ، فذكر هنا ليدلّ على أنّ هذه شنشنة قديمة فيهم ، وهي الاجتراء على الله ورسله ، واتّحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذامّ التي تناط بالقبائل .

قال الحجّاج في خطبته بعد يوم دَيْر الجَماجم يخاطب أهل العراق : ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمَرْتُم الشرّ واستبطنتم الكفر إلى أن قال : ثمّ يوم الزاوية وما يوم الزاوية . . إلخ ، مع أنّ فيهم من مات ومن طرأ بعد .

وقوله : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } عُطف أثرُ الكتب عَلى الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح ، { ونقول ذوقوا } وهْو أمر الله بأن يَدخلوا النار .

والذوق حقيقته إدراك الطُّعوم ، واستعمل هنا مجازاً مرسلاً في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق ، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل ، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون « ذوقوا » استعارة .

وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ ، وورد في القرآن كثيراً .