{ قال بصرت بما لم يبصروا به } أي : رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون ، { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } أي : من أثر فرسه . وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، أخبرنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي بن عمارة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إن جبريل ، عليه السلام ، لما نزل فصعد بموسى إلى السماء ، بصر به السامري من بين الناس ، فقبض قبضة من أثر الفرس قال : وحمل جبريل موسى خلفه ، حتى إذا دنا من باب السماء ، صعد وكتب الله الألواح{[19481]} وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح . فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال : نزل موسى ، فأخذ العجل فأحرقه . غريب . وقال مجاهد : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } قال : من تحت حافر فرس{[19482]} جبريل ، قال : والقبضة ملء الكف ، والقبضة بأطراف الأصابع .
قال مجاهد : نبذ السامري ، أي : ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه ، فهو خواره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا علي بن المديني ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا عمارة ، حدثنا عكرمة ؛ أن السامري رأى الرسول ، فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء ، فقلت له : " كن فكان " فقبض قبضة من أثر الرسول ، فيبست أصابعه على القبضة ، فلما ذهب موسى للميقات وكان بنو إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون ، فقال لهم السامري : إنما أصابكم من أجل هذا الحلي ، فاجمعوه . فجمعوه ، فأوقدوا عليه ، فذاب ، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت : " كن " كان . فقذف القبضة وقال : " كن " ، فكان عجلا له خوار ، فقال : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } .
ولهذا قال : { فَنَبَذْتُهَا } أي : ألقيتها مع من ألقى ، { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي : حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك .
وقوله : " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يقول : قال السامريّ : علمت ما لم يعلموه ، وهو فعلت من البصيرة : أي صرت بما عملت بصيرا عالما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما قتل فرعون الولدان قالت أمّ السامريّ : لو نحيته عني حتى لا أراه ، ولا أدري قتله ، فجعلته في غار ، فأتى جبرئيل ، فجعل كفّ نفسه في فيه ، فجعل يُرضعه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فمن ثم معرفته إياه حين قال : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " .
وقال آخرون : هي بمعنى : أبصرت ما لم يبصروه . وقالوا : يقال : بصرت بالشيء وأبصرته ، كما يقال : أسرعت وسرعت ما شئت . ذكر من قال : هو بمعنى أبصرت :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة قال " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يعني فرس جبرئيل عليه السلام .
وقوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " يقول : قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى السامريّ أثر فرس جبرئيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلاً جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قبض قبضة منه من أثر جبرئيل ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلاً جسدا له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَر الرّسُولِ فَنَبَذْتُها " قال : من تحت حافر فرس جبرئيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلاً جسدا له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره ، والعجل : ولد البقرة .
واختلف القرّاء في قراءة هذين الحرفين ، فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، بمعنى : قال السامريّ : بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » بالتاء على وجه المخاطبة لموسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بمعنى : قال السامريّ لموسى : بصرت بما لم تبصر به أنت وأصحابك .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنى كل واحدة منهما ، وذلك أنه جائز أن يكون السامريّ رأى جبرئيل ، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب ، أن تراب حافر فرسه الذي كان عليه يصلح لما حدث عنه حين نبذه في جوف العجل ، ولم يكن علم ذلك عند موسى ، ولا عند أصحابه من بني إسرائيل ، فلذلك قال لموسى : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » أي علمت بما لم تعلموا به . وأما إذا قرىء " بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، فلا مؤنة فيه ، لأنه معلوم أن بني إسرائيل لم يعلموا ما الذي يصلح له ذلك التراب .
وأما قوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " فإن قرّاء الأمصار على قراءته بالضاد ، بمعنى : فأخذت بكفي ترابا من تراب أثر فرس الرسول . وروي عن الحسن البصري وقتادة ما :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن عوف ، عن الحسن أنه قرأها : «فَقَبَصْتُ قَبْصَةً » بالصاد .
وحدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن قَتادة مثل ذكر بالصاد . بمعنى : أخذت بأصابعي من تراب أثر فرس الرسول ، والقبضة عند العرب : الأخذ بالكفّ كلها ، والقبصة : الأخذ بأطراف الأصابع .
وقوله : " فَنَبَذْتُها " يقول : فألقيتها " وكَذَلَكَ سَوّلَتْ لي نَفْسِي " يقول : وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلاً جسدا له خوار . " سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " يقول : زينت لي نفسي أنه يكون ذلك كذلك ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " وكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " قال : كذلك حدثتني نفسي .
{ قال بصرت بما لم يبصروا به } وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب أي علمت بما لم تعلموه وفطنت لما لم تفطنوا له ، وهو أن الرسول الذي جاءك روحاني لا يمس أثره شيئا إلا أحياه ، أو رأيت ما لم تروه وهو أن جبريل عليه الصلاة والسلام جاءك على فرس الحياة . وقيل إنما عرفه لأن أمه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون وكان جبريل يغذوه حتى استقل . { فقبضت قبضة من أثر الرسول } من تربة موطئة والقبضة المرة من القبض فأطلق على المقبوض كضرب الأمير ، وقرئ بالصاد والأول للأخذ بجميع الكف والثاني للأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم ، والرسول جبريل عليه الصلاة والسلام ولعله لم يسمه لأنه لم يعرف أنه جبريل أو أراد أن ينبه على الوقت وهو حين أرسل إليه ليذهب به إلى الطور . { فنبذتها } في الحلي المذاب أوفي جوف العجل حتى حيي { وكذلك سولت لي نفسي } زينته وحسنته لي .