164- قل يا محمد - منكراً - على المشركين دعوتهم إياك لموافقتهم على شركهم : أأطلب للعبادة رباً غير الله ، مع أنه خالق كل شيء ؟ وقل لهم - منكراً عليهم - إنهم لا يحملون عنك خطاياك إذا وافقتهم . لا تعمل أي نفس عملا إلا وقع جزاؤه عليها - وحدها - ولا تؤاخذ نفس بحمل ذنب نفس أخرى ، ثم تبعثون بعد الموت إلى ربكم ، فيخبركم بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا من العقائد ، ويجازيكم عليه ، فكيف أعصي الله اعتماداً على وعودكم الكاذبة ؟ .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } أي : أطلب ربا سواه ، وهو رب كل شيء ، يَرُبّنِي ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري ، أي : لا أتوكل إلا عليه ، ولا أنيب إلا إليه ؛ لأنه رب كل شيء ومليكه ، وله الخلق والأمر .
هذه{[11524]} الآية فيها الأمر بإخلاص التوكل ، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له{[11525]} لا شريك له . وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرًا [ في القرآن ]{[11526]} كما قال{[11527]} تعالى مرشدًا لعباده أن يقولوا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] ، وقوله { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ] ، وأشباه ذلك من الآيات .
وقوله : { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله ، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها{[11528]} إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد . وهذا من عدله تعالى ، كما قال : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [ فاطر : 18 ] ، وقوله { فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } [ طه : 112 ] ، قال علماء التفسير{[11529]} : فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ، ولا يهضم بأن ينقص من حسناته . وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [ المدثر : 38 ، 39 ] ، معناه : كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين ، فإنه قد تعود{[11530]} بركات أعمالهم الصالحة على ذراريهم ، كما قال في سورة الطور : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الآية : 21 ] ، أي : ألحقنا بهم ذرياتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة ، وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال ، بل في أصل الإيمان ، { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ } أي : أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة ، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم ، بفضله ومنته{[11531]} ثم قال : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] ، أي : من شر .
وقوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه ، فستعرضون ونعرض عليه ، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم ، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا ، كما قال تعالى : { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ . قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 25 ، 26 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان ، الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان : أغيرَ اللّهِ أبْغِي رَبّا يقول : أسِوَى الله أطلب سيّدا يسودني . وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ يقول : وهو سيد كلّ شيء دونه ، ومدبره ومصلحه . وَلا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إلاّ عَلَيْها يقول : ولا تجترح نفس إثما إلا عليها أي لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى وركبت من الخطيئة سواها ، بل كلّ ذي إثم فهو المعاقَب بإثمه والمأخوذ بذنبه . وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يقول : ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها ، ولكنها تأثم باثمها وعليه تعاقب دون إثم أخرى غيرها . وإنما يعني بذلك المشركين الذين أم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم ، يقول : قل لهم : إنا لسنا مأخوذين بآثامكم ، وعليكم عقوبة إجرامكم ، ولنا جزاء أعمالنا . وهذا كما أمره الله جلّ ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ . وذلك كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : كان في ذلك الزمان لا مخرج للعلماء العابدين إلا إحدى خَلّتين ، إحداهما أفضل من صاحبتها : إما أمر ودعاء إلى الحقّ ، أو الاعتزال ، فلا تشارك أهل الباطل في عملهم ، وتؤدّي الفرائض فيما بينك وبين ربك ، وتحبّ لله ، وتبغض لله ، ولا تشارك أحدا في أثم . قال : وقد أنزل في ذلك آية محكمة : قُلْ أغيرَ اللّهِ أبْغِي رَبّا وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ . . . إلى قوله : فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وفي ذلك قال : وَما تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمْ البَيّنَةُ .
يقال من الوِزْر : وَزِرَ يَوْزَر ، فهو وَزِير ، ووُزِرَ يُوْزَر فهو مَوْزُور .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ إلى رَبّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان : كلّ عامل منا ومنكم فله ثواب عمله وعليه وزره ، فاعملوا ما أنتم عاملوه . ثُمّ إلى رَبّكُمْ أيها الناس ، مَرْجِعُكُمْ يقول : ثم إليه مصيركم ومنقلبكم ، فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ في الدنيا ، تَخْتَلِفُونَ من الأديان والملل ، إذ كان بعضكم يدين باليهودية ، وبعض بالنصرانية ، وبعض بالمجوسية ، وبعض بعبادة الأصنام ، وادّعاه الشركاء مع الله والأنداد ، ثم يجازي جميعكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شرّ ، فتعلموا حينئذٍ مَن المحسن منا والمسيء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {قل} لهم {أغير الله أبغي ربا}، يعني أتخذ ربا، {وهو رب كل شيء} في السماوات والأرض، {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}، يعني إلا على نفسها، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى...، {ثم إلى ربكم} في الآخرة {مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه} في الدين أنتم وكل قبيلة في الدين {تختلفون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان:"أغيرَ اللّهِ أبْغِي رَبّا" يقول: أسِوَى الله أطلب سيّدا يسودني.
"وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ "يقول: وهو سيد كلّ شيء دونه، ومدبره ومصلحه. "وَلا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إلاّ عَلَيْها" يقول: ولا تجترح نفس إثما إلا عليها أي لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى وركبت من الخطيئة سواها، بل كلّ ذي إثم فهو المعاقَب بإثمه والمأخوذ بذنبه. "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم باثمها وعليه تعاقب دون إثم أخرى غيرها. وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم، يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم، وعليكم عقوبة إجرامكم، ولنا جزاء أعمالنا. وهذا كما أمره الله جلّ ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"...
"ثُمّ إلى رَبّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان: كلّ عامل منا ومنكم فله ثواب عمله وعليه وزره، فاعملوا ما أنتم عاملوه، "ثُمّ إلى رَبّكُمْ" أيها الناس، "مَرْجِعُكُمْ" يقول: ثم إليه مصيركم ومنقلبكم، "فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ" في الدنيا، "تَخْتَلِفُونَ" من الأديان والملل، إذ كان بعضكم يدين باليهودية، وبعض بالنصرانية، وبعض بالمجوسية، وبعض بعبادة الأصنام، وادّعاء الشركاء مع الله والأنداد، ثم يجازي جميعكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شرّ، فتعلموا حينئذٍ مَن المحسن منا والمسيء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كيف أوثِر عليه بَدَلاً وإني لا أجد عن حكمه حِوَلا؟
وكيف أقول بغيرٍ أو ضد أو شريك أو أقول بدونه معبود أو مقصود؟ وإنْ لاحظتُ يمنةً ما شاهدتُ إلا مُلْكَه، وإنْ طالعتُ يَسْرةً ما عايَنْتُ إلا مُلكَه! بل إني إنْ نظرتُ يمنةً شهدت يُمْنَه، وإنْ نظرتُ يَسْرةً وجدتُ نحوي يُسْرَه!...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... استفهام يقتضي التقرير والتوقيف والتوبيخ، و {أبغي} معناه أطلب، فكأنه قال: أفيحسن عندكم أن أطلب إلهاً غير الله الذي هو رب كل شيء؟ {ولا تزر} أي لا تحمل وازرة أي حاملة ِحمل أخرى وثقلها، والوزر أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم لأنه ينقض الظهر تجوزاً واستعارة... وقوله {ثم إلى ربكم مرجعكم} تهديد ووعيد {فينبئكم} أي فيعلمكم أن العقاب على الاعوجاج تبيين لموضع الحق، وقوله {بما كنتم فيه تختلفون} يريد على ما حكى بعض المتأولين من أمري في قول بعضكم هو ساحر وبعضكم هو شاعر. وبعضكم افتراه، وبعضكم اكتتبه، ونحو هذا...
وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع وإن كان اللفظ يعم جميع أنواع الاختلافات من الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما بين توحيد الألوهية، انتقل إلى برهانه الأعلى وهو توحيد الربوبية، بما أمره به تعالى في قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} الاستفهام للإنكار والتعجب والمعنى أغير الله خالق الخلق، وسيدهم ومربيهم بالحق، اطلب ربا آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إليه، أو ذبح النسائك أو نذرها له، لينفعني أو يمنع الضر عني أو ليقربني إليه زلفى ويشفع لي عنده كما تفعلون بآلهتكم، والحال أنه تعالى هو رب كل شيء مما عبد ومما لم يعبد فهو الذي خلق الملائكة وخواص البشر كالمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام المذكرة ببعض الصالحين وصانعيها {والله خلقكم وما تعملون} (الصافات 96) فإذا كان تعالى هو الخالق المقدر، وهو السيد المالك المدبر، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وفضل بعض المخلوقات على بعض ولكنها بالنسبة إليه على حد سوى، فكيف أسفه نفسي وأكفر ربي، بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي؟ وقد سبق تقرير هذه المسألة مرارا في تفسير هذه السورة وغيرها ومنه أن جميع المشركين كانوا يقرون بأن معبوداتهم مخلوقة وأن الله رب العالمين هو خالق الخلق أجمعين...
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذه الجملة معطوفة على الجملة الحالية قبلها، لأنها معللة للإنكار ومقررة للتوحيد مثلها، وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم 36- 39) وهي من أعزم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم، لأنها هادمة لأساس الوثنية، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية (وهو عملهم) وقد بينا مرارا أن أساس الوثنية طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، هي عبارة عن وساطة بعض المخلوقات العظيمة الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وبين ربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا من ذلك بدون كسب ولا سعي إليه من طريق الأسباب التي جرت بها سنته تعالى في خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبهم تعالى بها، أو يحملوا الباري تعالى على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها أي على إبطال سنته وتبديلها في أمثالهم، أو تحويلها عنهم إلى غيرهم،وإن قال في كتابه: {ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} (فاطر 43).
فمعنى الجملتين: ولا تكسب كل نفس عاملة مكلفة إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس، إنما تحمل وزرها وحده {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (البقرة 286) دون ما كسب أو اكتسب غيرها. والوزر في اللغة: الحمل الثقيل ووزره يزره حمله يحمله. قال ابن عباس في تفسير الجملتين بحاصل المعنى: لا يحمل أحد ذنب غيره. فالدين قد علمنا أن نجري على ما أودعته الفطرة من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم، وأن عمل كل نفس يؤثر فيها التأثير الحسن الذي يزكيها إن كان صالحا، أو التأثير السيئ الذي يدسيها ويفسدها إن كان فاسدا وإن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره من حيث هو عمل غيره. وأما من كان قدوة صالحة في عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله وفعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالا عليه ومغريا به فإن عليه مثل إثم من أفسدهم كذلك، وكل من هذا وذاك يعد من عمل الهادين والمضلين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله:"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الملك البجلي والترمذي بلفظ "من سن سنة خير.. ومن سن سنة شر.. "وبهذا يعلم أنه لا تعارض بين الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في المضلين من الناس {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل 25) وقوله فيهم: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت 13)...
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة التي بعد هذه الحياة الدنيا إلى ربكم وحده دون غيره مما عبدتم من دونه زاعمين أنهم يقربونكم إليه فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم إذ كان بعضكم يعبده وحده، وبعضكم قد اتخذ له أندادا من خلقه، ويتولى هو جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمتين ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه؛ فكيف تعبدون معه غيره؟ وقد تقدم مثل هذا في سورة المائدة في سياق اختلاف الشرائع وذكرنا نصه آنفا وفي آل عمران في قصة عيسى: {إلي مرجعكم فأحكم بينكم فما كنتم فيه تختلفون} (آل عمران 54) ومثله في البقرة بعد ذكر طعن اليهود والنصارى بعضهم ببعض (2: 112) وله نظائر بعضها في الأنباء بالاختلاف أو الحكم فيه وبعضها في الأنباء بالعمل ومنه ما تقدم في هذه السورة (آية 20و 109) وكله إنذار بالجزاء وبيان أنه بيده تعالى وحده.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن؛ وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل؛ وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية.. ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل؛ وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة
(أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء)؟
أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن علي ويقومني ويوجهني؟ وأنا مأخوذ بنيتي وعملي، محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية؟
أغير الله أبغي ربا. وهذا الكون كله في قبضته؛ وأنا وأنتم في ربوبيته؟
أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره؟ (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى؟)..
أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعاً فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟
أغير الله أبغي ربا، وهو الذي استخلف الناس في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق؛ ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟
أغير الله أبغي ربا، وهو سريع العقاب، غفور رحيم لمن تاب؟
أغير الله أبغي ربا، فأجعل شرعه شرعاً، وأمره أمراً، وحكمه حكماً. وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة؛ وكلها شاهدة؛ وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد؟؟؟
إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية؛ يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع. مشهد الحقيقة الإيمانية، كما هي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد..
إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة؛ يجيء متناسقاً مع الإيقاعات الأولى في السورة، تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان؛ من ذلك قوله تعالى: (قل: أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين)... وغيرها في السورة كثير.