الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِي رَبّٗا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡءٖۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (164)

قوله تعالى : " قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء " أي مالكه . روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ارجع يا محمد إلى ديننا ، واعبد آلهتنا ، واترك ما أنت عليه ، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك ، فنزلت الآية . وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ . و " غير " نصب ب " أبغي " و " ربا " تمييز .

قوله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فيه مسألتان :

الأولى - قوله تعالى : " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " أي لا ينفعني في ابتغاء رب غير الله كونكم على ذلك ، إذ لا تكسب كل نفس إلا عليها ؛ أي لا يؤخذ بما أتت من المعصية ، وركبت من الخطيئة سواها .

الثانية - وقد استدل بعض العلماء من المخالفين بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح ، وهو قول الشافعي . وقال علماؤنا : المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا ، بدليل قوله تعالى : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " على ما يأتي . وبيع الفضولي عندنا موقوف على إجازة المالك ، فإن أجازه جاز . هذا عروة البارقي قد باع للنبي صلى الله عليه وسلم واشترى وتصرف بغير أمره ، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال أبو حنيفة . وروى البخاري والدارقطني عن عروة بن أبي الجعد قال : عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب{[6966]} فأعطاني دينارا وقال : ( أي عروة ايت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار ) فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار ، فجئت أسوقهما - أو قال أقودهما - فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار ، وجئت بالشاة الأخرى وبدينار ، فقلت : يا رسول الله ، هذه الشاة وهذا ديناركم . قال : ( كيف صنعت ) ؟ فحدثته الحديث . قال : ( اللهم بارك له في صفقة يمينه ) . قال : فلقد رأيتني أقف في كناسة{[6967]} الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي . لفظ الدارقطني . قال أبو عمر : وهو حديث جيد ، وفيه صحة{[6968]} ثبوت النبي صلى الله عليه وسلم للشاتين{[6969]} ، ولو لا ذلك ما أخذ منه الدينار ولا أمضى له البيع . وفيه دليل على جواز الوكالة ، ولا خلاف فيها بين العلماء . فإذا قال الموكل لو كيله : اشتر كذا ، فاشترى زيادة على ما وكل به فهل يلزم ذلك الأمر أم لا ؟ . كرجل قال لرجل : اشتر بهذا الدرهم رطل لحم ، صفته كذا ، فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم . فالذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة ومن جنسها ؛ لأنه محسن . وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة : الزيادة للمشتري . وهذا الحديث حجة عليه .

قوله تعالى : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى ، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها . وأصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى : " ووضعنا عنك وزرك{[6970]} " [ الشرح : 2 ] . وهو هنا الذنب ؛ كما قال تعالى : " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " [ الأنعام : 31 ] وقد تقدم{[6971]} . قال الأخفش : يقال وَزِرَ يَوْزَرُ ، ووَزَرَ يَزِرُ ، ووُزِرَ يُوزَرُ وِزْراً . ويجوز إِزْرًا ، كما يقال : إسادة{[6972]} . والآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يقول : اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم . ذكره ابن عباس . وقيل : إنها نزلت ردا على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه وبجريرة حليفه .

قلت : ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة ، وكذلك التي قبلها ، فأما التي{[6973]} في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض ، لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين ، كما تقدم في حديث أبي بكر في قوله : " عليكم أنفسكم{[6974]} " [ المائدة : 105 ] . وقوله تعالى : " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة{[6975]} " [ الأنفال : 25 ] . " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{[6976]} " [ الرعد : 11 ] . وقالت زينب بنت جحش : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخنث ) . قال العلماء : معناه أولاد الزنى . والخبث ( بفتح الباء ) اسم للزنى . فأوجب الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ على العاقلة حتى لا يطل{[6977]} دم الحر{[6978]} المسلم تعظيما للدماء . وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك ، فدل على ما قلناه . وقد يحتمل أن يكون هذا في الدنيا ، في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو ، وأن كل مباشر لجريمة فعليه مغبتها . وروى أبو داود عن أبي رمثة قال : انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي : ( ابنك هذا ) ؟ قال : أي ورب الكعبة . قال : ( حقا ) . قال : أشهد به . قال : فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا من ثبت{[6979]} شبهي في أبي ، ومن حلف أبي علي . ثم قال : ( أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . ولا يعارض ما قلناه أولا بقوله : " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم{[6980]} " [ العنكبوت : 13 ] ؛ فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله : " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم{[6981]} " [ النحل : 25 ] . فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل{[6982]} شيء ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .


[6966]:الجلب (بالتحريك): ما جلب القوم من غنم وغيره.
[6967]:محلة بالكوفة يشبه أن تكون سوقا.
[6968]:في ج: في صحته ثبوت.
[6969]:في ك: للشارين.
[6970]:راجع ج 20 ص 105.
[6971]:راجع ج 6 ص 413 و ص 342.
[6972]:في قولهم: وسادة.
[6973]:من ز.
[6974]:راجع ج 6 ص 413 و ص 342.
[6975]:راجع ص 391 من هذا الجزء.
[6976]:راجع ج 9 ص 291.
[6977]:طل دمه: ذهب هدرا.
[6978]:في ك: المرء.
[6979]:كذا في الأصول أي استقرار، وفي سنن أبي داود: بين.
[6980]:راجع ج 13 ص 330 و ص 12.
[6981]:راجع ج 10 ص 96.
[6982]:في ك: المضلين.