فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِي رَبّٗا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡءٖۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (164)

الاستفهام في { أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّا } للإنكار ، وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله ، أي كيف أبغي غير الله رباً مستقلاً وأترك عبادة الله ، أو شريكاً لله فأعبدهما معاً ، والحال أنه ربّ كل شيء ، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له ، مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضرّ ، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره ، وغير منصوب بالفعل الذي بعده ، وربا تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصباً لمفعولين . قوله : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها ، فكل كسبها للشرّ عليها لا يتعداها إلى غيرها ، وهو مثل قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } وقوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } . قوله : { وَلاَ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } أصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } وهو هنا الذنب { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } قال الأخفش : يقال وزر يَوزر ، ووزر يزر وزراً ، ويجوز إزراً ، وفيه ردّ لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه ، والواحد من القبيلة بذنب الآخر . وقد قيل : إن المراد بهذه الآية في الآخرة ، وكذلك التي قبلها لقوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } ومثله قول زينب بنت جحش : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث » ، والأولى حمل الآية على ظاهرها : أعني العموم ، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك ، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم ، ويقرّ في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي : أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } في الدنيا ، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين .