نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِي رَبّٗا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡءٖۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (164)

ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه ، وكان آخر ذلك أن دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم ، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد ، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا{[31822]} فيه أصلاً ، وأيأس الكفار من موافقته صلى الله عليه وسلم لهم{[31823]} نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل ، أمره سبحانه - بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره - بالإنكار على من يريد منه ميلاً{[31824]} إلى غير من تفرد بمحياه ومماته ، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة ، والتوبيخ الشديد فقال : { قل } أي لهؤلاء الذين يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم { أغير الله } أي الذي له الكمال كله { أبغي } أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل{[31825]} ممن أشرك به شيئاً { رباً } أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم ، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم ، والإسناد{[31826]} إليه صلى الله عليه وسلم - والمراد جميع الخلق - من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف { وهو } أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار{[31827]} اللوامع { رب كل شيء } أي موجده ومربيه ، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده ، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه .

ولما أنكر على من يجنح إلى غيره مع عموم بره وخيره ، أتبعه الترويع من قويم عدله في عظيم ضره فقال : { ولا } أي والحال أنه لا{[31828]} { تكسب كل نفس } أي ذنباً وإن قل مع التصميم والعزم القوي الذي هو بحيث يصدقه العمل - كما مضى في آية البقرة { إلا عليها } أي لا يمكن أن يكون باطلاً لا عليها ولا على غيرها ، وإذا كان عليها لا يمكن{[31829]} أن يحاسب به سبحانه سواها لأنه عدل حكيم فكيف أدعو غيره دعاء جلياً أو خفياً وذلك أعظم الذنوب ! وللتنفير من الشرك الخفي بالرياء وكل معصية وإن صغرت{[31830]} ، جرد الفعل عن الافتعال لئلا يتوهم أنه لا يكون عليها إلا ما{[31831]} بالغت{[31832]} فيه ، والسياق هنا واضح في أن الكسب مقيد بالذنب فإنه في دعاء غير الله وآية البقرة للإيماء إلى الذنب الذي{[31833]} {[31834]} لا يقع{[31835]} إلا بشهوة شديدة من النفس له لطبعها على النقائص ، فهي لا تنافي هذه لأن ما كسبته من الذنوب قد علم من ثَمَّ أنه اكتساب{[31836]} ، وأحسن من هذا أن يقال : ولما كان المعنى أني إن بغيت رباً غيره وكلني إلى ما توليته ، وأنا إنسان والإنسان مطبوع على النقائص فهلكت ، عبر عنه بقوله مجرداً للفعل لقصد العموم : { ولا تكسب كل نفس } بما هي نفس ناظرة في نفاستها معرضة عن ربها موكولة إلى حولها وقوتها { إلا عليها } ولا يحمل عنها غيرها شيئاً من وزرها ؛ ولما كان ربما حمل أحد عن غيره شيئاً من أثقاله مساعدة له ، نفى ذلك بقوله : { ولا تزر وازرة } أي تحمل حاملة ولو كانت والداً أو ولداً { وزر } أي إثم { أخرى }

{ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى{[31837]} }[ فاطر : 18 ] فإذا كان الأمر كذلك فلا يجعل بعاقل أن يعرض نفسه بحمل شيء من غضب هذا الملك الذي لا شريك له وإليه المرجع وإن طال المدى .

ولما عم في الكسب وحمل الوزر لئلا يقول متعنت أن خص هذا لك لا لنا ، عم في المرجع أيضاً لمثل ذلك ، فقال مهدداً لهم بعد كمال الإيضاح عاطفاً على ما أرشد إليه الإنكار من النفي في نحو أن يقال : إني لا أفعل شيئاً من ذلك ، لا أبغي رباً غير ربي أصلاً ، وأما أنتم{[31838]} فافعلوا ما أنتم{[31839]} فاعلون فإن ربكم عالم به{[31840]} : { ثم } أي بعد طول الإمهال{[31841]} لكم لطفاً منه بكم { إلى ربكم } أي الذي أحسن إليكم بكل نعمة ، لا إلى غيره { مرجعكم } أي بالحشر وإن عمرتم كثيراً أو بقيتم طويلاً { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً جليلاً عظيماً مستوفى .

ولما كان قد تقدم أنهم فرقوا دينهم ، قال : { بما كنتم } أي جبلة وطبعاً ، ولذلك قدم الجار ليفيد الاهتمام به لقوة داعيتهم إليه من غير إكراه ولا ذهول ولا نسيان فقال : { فيه تختلفون * } أي مع رسول وغيره ، ويدينكم على جميع ذلك بما تستحقونه{[31842]} ، وحالكم جدير بأن يعظم عقابكم لأنكم كفرتم نعمته ؛ قال أبو حيان : حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك ، فنزلت هذه الآية - انتهى .


[31822]:من ظ، وفي الأصل: لم يخلفوا.
[31823]:من ظ، وفي الأصل: إليهم.
[31824]:من ظ، وفي الأصل: الميل.
[31825]:في ظ: لا يقبله.
[31826]:في ظ: الاستناد.
[31827]:زيدت الواو بعده في الأصل، ولم تكن في ظ فحذفناها.
[31828]:زيد من ظ.
[31829]:في ظ: لا ينبغي.
[31830]:زيدت الواو بعده في الأصل، ولم تكن في ظ فحذفناها.
[31831]:زيد من ظ.
[31832]:في ظ: بلغت.
[31833]:زيد لاستقامة العبارة.
[31834]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[31835]:سقط ما بينن الرقمين من ظ.
[31836]:من ظ، وفي الأصل: اكتسب.
[31837]:سورة 35 آية 18.
[31838]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[31839]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[31840]:سقط من ظ.
[31841]:زيد من ظ.
[31842]:من ظ، وفي الأصل: استحقوا به – كذا.