وجعل بعضهم يحمس بعضا ، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون ، اللذين يريدان الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها ؛ مما يوجب مواجهتهما يدا واحدة بلا تردد ولا نزاع . واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح :
( قالوا : إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى .
جملة { قَالُوا إنْ هذان لساحران } بدل اشتمال من جملة { وأسَرُّوا النجوى } ، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول ، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه ، فهو زبدة مخيض النجوى . وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه .
وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى : قال بعضهم : هذان لساحران ، فقال جميعهم : نعم هذان لسَاحران ، فأسند هذا القول إلى جميعهم ، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها . وقال بعضهم لبعض : نعم هو كذلك ، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم ، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران .
واعلم أنّ جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله « هاذان » ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر . وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ ( هذانِ ) أكثر تواتراً بقطع النظر عن كيفيّة النطق بكلمة ( إنّ ) مشدّدة أو مخفّفة ، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون ( إنّ ) ما عدا ابنَ كثير وحفصاً عن عاصم فهما قرءَا ( إنْ ) بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة .
وإن المصحف الإمام ما رسمُوه إلاّ اتّباعاً لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقرّاء أصحابه ، فإن حفظ القرآن في صدور القرّاء أقدم من كتابته في المصاحف ، وما كتب في أصول المصاحف إلاّ من حفظ الكاتِبين ، وما كُتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحُفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي .
فأما قراءة الجمهور { إنّ هذان لساحران } بتشديد نون ( إنّ ) وبالألف في هذان وكذلك في لساحران ، فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستّة . وأظهرها أن تكون ( إنّ ) حرف جواب مثل : نعم وأجَل ، وهو استعمال من استعمالات ( إنّ ) ، أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النّجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيّات :
ويقلْن شيب قد عَلا *** كَ وقد كبِرت فقلت إنّه
أي أجل أو نعم ، والهاء في البيت هاءُ السّكْتتِ ، وقول عبد الله بن الزُبير لأعرابي استجداه فلم يعطه ، فقال الأعرابي : لعَن الله ناقة حملتني إليك . قال ابن الزّبير : إنّ وراكِبَها . وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في « تفسيره » . وقال : عرضته على عالمينا وشيْخينا وأستاذيْنا محمد بن يزيد ( يعني المبرد ) ، وإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ( يعني القاضي الشهير ) فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا .
وقلت : لقد صدقا وحقّقا ، وما أورده ابن جنّي عليه من الرد فيه نظر .
وفي « التفسير الوجيز » للواحدي سأل إسماعيل القاضي ( هو ابن إسحاق بن حمّاد ) ابنَ كيسان عن هذه المسألة ، فقال ابنُ كيسان : لما لم يظهر في المبهم إعرابٌ في الواحد ولا في الجمع ( أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان ) جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغيّر . فقال له إسماعيل : ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يُؤْنس به فقال له ابنُ كيسان : فليقل به القاضي حتى يؤنس به ، فتبسم .
وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى : { إنّ هَذانِ لسَاحِرانِ } حكايةً لمقال فريق من المتنازعين ، وهو الفريق الذي قبِل هذا الرأي لأنّ حرف الجواب يقتضي كلاماً سبقه .
ودخلت اللاّم على الخبر : إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير ، ووجودُ اللاّم ينبىء بأن الجملة التي وقعت خبراً عن اسم الإشارة جملة قسميّة ؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة .
ووجهت هذه القراءة أيضاً بجعل ( إنّ ) حرف توكيد وإعراببِ اسمها المثنّى جَرى على لغة كنانة وبِلْحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألفَ في أحوال الإعراب كلها ، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمّس :
فأطرقَ إطراقَ الشُجاع ولو درى *** مساغاً لِنَأبَاهُ الشجاعُ لصمّما
وقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون ( إنْ ) مسكنة على أنها مخففة ( إنّ ) المشددة . ووجه ذلك أن يكون اسم ( إنْ ) المخففة ضمير شأن محذوفاً على المشهور . وتكون اللاّم في { لساحران } اللاّم الفارقة بين ( إنْ ) المخففة وبين ( إن ) النافية .
وقرأ ابن كثير بسكون نون ( إنْ ) على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في « هذان » وبتشديد نون ( هاذانّ ) .
وأما قراءة أبي عمرو وحده { إنَّ هذَيْن بتشديد نون ( إنّ ) وبالياء بعد ذال هذين . فقال القرطبي : هي مخالفة للمصحف . وأقل : ذلك لا يطعن فيها لأنّها رواية صحيحة ووافقت وجهاً مقبولاً في العربيّة .
ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود . فلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة إن هاذان خطأ من كاتب المصحف ، وروايتِهم ذلك عن أبانَ بن عثمان بن عفّان عن أبيه ، وعن عروة بن الزبير عن عائشة ، وليس في ذلك سند صحيح .
حسبوا أنّ المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفّل ، فإن المصحف ما كتب إلاّ بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيّفاً وعشرين سنة في أقطار الإسلام ، وما كتبت المصاحف إلاّ من حفظ الحفّاظ ، وما أخذ المسلمون القرآن إلاّ من أفواه حُفّاظه قبل أن تكتب المصاحف ، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخطّ لما تبعه القراء ، ولكان بمنزلة ما تُرك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة ، والزكاة ، والحياة ، والرّبا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلاّ بألِفاتها .
وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف ( إنّ ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما .
وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات ، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها : جئتكم من عندِ أسْحر النّاس ، وهو في كتاب المغازي من « صحيح البخاري » .
والقائلون : قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون ، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة .
والخطاب في قوله { أن يُخْرِجَاكُم } لملئهم . ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى : { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى } [ طه : 57 ] . ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة ، أي يريدانِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون .
والطريقة : السُّنّة والعادة ؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر ، بجامع الملازمة .
والمثلى : مؤنّث الأمثل . وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة ، وهي حسن الحالة يقال : فلان أمثل قومِه ، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً .
وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم ، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها . ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى .
والباء في { بطريقتكم } لتعدية فعل { يذهبا } . والمعنى : يُذهبانها ، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول . وتقدّم عند قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } في سورة البقرة ( 17 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.