{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ؟ يعنون : [ من ]{[24774]} قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ، وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم ؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد .
وقال أُبَيّ بن كعب ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : ينامون نومة قبل البعث .
قال قتادة : وذلك بين النفختين .
فلذلك يقولون : { مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون - قاله غير واحد من السلف - : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } . وقال الحسن : إنما يجيبهم بذلك الملائكة .
ولا منافاة إذ الجمع ممكن ، والله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد : الجميع من قول الكفار : { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } .
نقله ابن جرير ، واختار الأول ، وهو أصح ، {[24775]} وذلك كقوله تعالى في الصافات : { وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ الصافات : 20 ، 21 ] ، وقال [ الله ]{[24776]} تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ الروم : 55 ، 56 ] .
ونداؤهم الويل بمعنى هذا وقتك وأوان حضورك وهو منادى مضاف ، ويحتمل أن يكون نصب الويل على المصدر والمنادى محذوف ، كأنهم قالوا يا قومنا ويلنا ، وقرأ ابن أبي ليلى «يا ويلتنا » بتاء التأنيث{[9795]} ، وقرأ الجمهور «مَن بعثنا » بفتح الميم على معنى الاستفهام ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها قرآ «مِن بْعثِنا » بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية ، وسكون العين وكسر الثاء على المصدر ، وفي قراءة ابن مسعود ، «من أهبنا من مرقدنا » أي من نبهنا ، وفي قراءة أبي بن كعب «من هبنا » ، قال أبو الفتح ولم أرَ لها في اللغة أصلاً ولا مر بنا " مهبوب " {[9796]} ، ونسبها أبو حاتم إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، وقولهم { من مرقدنا } يحتمل أن يريدوا من موضع الرقاد حقيقة ، ويروى عن أبي بن كعب وقتادة ومجاهد أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه في قولهم { من مرقدنا } أنها استعارة وتشبيه ، كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة ، وفي كتاب الثعلبي : أنهم قالوا { من مرقدنا } لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد ، ثم استأنف بقوله ، { ما وعد الرحمن } ويضمر الخبر حق أو نحوه ، وقال الجمهور : ابتداء الكلام { هذا ما وعد الرحمن } ، واختلف في هذه المقالة من قالها ، فقال ابن زيد : هي من قول الكفرة أي لما رأوا البعث والنشور الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } وقالت فرقة : ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ والتوقيف ، وقال الفراء : هو من قول الملائكة ، وقال قتادة ومجاهد : هو من قول المؤمنين للكفرة على جهة التقريع .
استئناف بياني لأن وصف هذه الحال بعد حكاية إنكارهم البعث وإحالتهم إياه يثير سؤال من يسأل عن مقالهم حينما يرون حقية البعث .
و { يا وَيْلَنَا } كلمة يقولها الواقع في مصيبة أو المُتحسِّر . والويل : سوء الحال ، وإنما قالوا ذلك لأنهم رأوا ما أُعدّ لهم من العذاب عندما بعثوا . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } في سورة البقرة ( 79 ) .
وحكي قولهم بصيغة الماضي اتباعاً لحكاية ما قبله بصيغة المضيّ لتحقيق الوقوع .
وحرف النداء الداخل على { ويلنا } للتنبيه وتنزيل الويل منزلة من يسمع فيُنادَى ليحضر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالت يا ويلتى } في سورة هود ( 72 ) .
و { مَن } استفهام عن فاعل البعث مستعمل في التعجّب والتحسّر من حصول البعث . ولما كان البعث عندهم محالاً كنّوا عن التعجب من حصوله بالتعجب من فاعله لأن الأفعال الغريبة تتوجه العقول إلى معرفة فاعلها لأنهم لما بُعثوا وأزْجي بهم إلى العذاب علموا أنه بعثٌ فعَله من أراد تعذيبهم .
والمَرْقَد : مكان الرقاد . وحقيقة الرقاد : النوم . وأطلقوا الرقاد على الموت والاضطجاعِ في القبور تشبيهاً بحالة الراقد .
ثم لم يلبثوا أن استحضرت نفوسهم ما كانوا يُنذرون به في الدنيا فاستأنفوا عن تعجبهم قولهم : { هذا ما وَعَدَ الرحمن وصَدَقَ المُرْسَلُونَ } . وهذا الكلام خبر مستعمل في لازم الفائدة وهو أنهم علموا سبب ما تعجبوا منه فبطل العجب ، فيجوز أن يكونوا يقولون ذلك كما يتكلم المتحسّر بينه وبين نفسه ، وأن يقوله بعضهم لبعض كل يظن أن صاحبه لم يتفطن للسبب فيريد أن يعلمه به .
وأتوا في التعبير عن اسم الجلالة بصفة الرحمان إكمالاً للتحسر على تكذيبهم بالبعث بذكر ما كان مقارناً للبعث في تكذيبهم وهو إنكار هذا الاسم كما قال تعالى : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان } [ الفرقان : 60 ] .
والإِشارة بقوله : { هذا } إشارة إلى الحالة المرْئية لِجميعهم وهي حالة خروجهم من الأرض .
وجملة { وصَدَقَ المُرْسَلُونَ } عطف على جملة { هذا ما وعَدَ الرحمن } وهو مستعمل في التحسّر على أن كذبوا الرسل .
وجَمع المرسلين مع أن المحكي كلامُ المشركين الذين يقولون { متى هذا الوعد } [ يس : 48 ] إمّا لأنهم استحضروا أن تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم كان باعثَه إحالتُهم أن يكون الله يرسل بَشراً رسولاً ، فكان ذلك لأنهم لا يصدقون أحداً يأتي برسالة من الله كما حكى عنهم قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] فلما تحسروا على خطئهم ذكَروه بما يشمله ويشمل سبَبَه كقوله تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } من سورة الشعراء ( 105 ) ، وقوله في سورة الفرقان ( 37 ) { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } ، وإما لأن ذلك القول صدر عن جميع الكفار المبعوثين من جميع الأمم فعلِمت كل أمة خطأها في تكذيب رسولها وخطأ غيرها في تكذيب رسلهم فنطقوا جميعاً بما يفصح عن الخطأيْن ، وقد مضى أن ضمير { فَإذَا هُم جَمِيعٌ } [ يس : 53 ] يجوز أن يعود على جميع الناس .
ومن المفسرين من جعل قوله : { هذا ما وعد الرحمن وصَدَقَ المُرْسَلُونَ } من كلام الملائكة يجيبون به قول الكفار { مَنْ بعَثَنا مِن مَرْقَدِنا } فهذا جواب يتضمن بيان مَن بعثهم مع تنديمهم على تكذيبهم به في الحياة الدنيا حين أبلغهم الرسل ذلك عن الله تعالى . واسم { الرحمن } حينئذٍ من كلام الملائكة لزيادة توبيخ الكفار على تجاهلهم به في الدنيا .