الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ} (52)

قوله تعالى : " قالوا ياويلنا " قال ابن الأنباري : " يا ويلنا " وقف حسن ثم تبتدئ " من بعننا " وروي عن بعض القراء " يا ويلنا من بعثنا " بكسر من والثاء من البعث . روي ذلك عن علي رضي الله عنه ، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله : " يا ويلنا " حتى يقول : " من مرقدنا " . وفي قراءة أبي بن كعب " من هبّنا " بالوصل " من مرقدنا " فهذا دليل على صحة مذهب العامة . قال المهدوي : قرأ ابن أبي ليلى : " قالوا يا ويلتنا " بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل ، ومثله : " يا ويلتا أألد وأنا عجوز " [ هود : 72 ] . وقرأ علي رضي الله عنه " يا ويلتا من بعثنا " ف " من " متعلقة بالويل أو حال من " ويلتا " فتتعلق بمحذوف ، كأنه قال : يا ويلتا كائنا من بعثنا ، وكما يجوز أن يكون خبرا عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه . و " من " من قوله : " من مرقدنا " متعلقة بنفس البعث . ثم قيل : كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم ؟ فالجواب أن أبي بن كعب قال : ينامون نومة . وفي رواية فيقولون : يا ويلتا من أهبنا من مرقدنا . قال أبو بكر الأنباري : لا يحمل هذا الحديث على أن " أهبنا " من لفظ القرآن كما قال من طعن في القرآن ، ولكنه تفسير " بعثنا " أو معبر عن بعض معانيه . قال أبو بكر : وكذا حفظته " من هبنا " بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من . والصواب فيه على طريق اللغة " من أهبنا " بفتح النون على أن فتحة همزة أهب ألقيت على نون " من " وأسقطت الهمزة ، كما قالت العرب : من أخبرك من أعلمك ؟ وهم يريدون من أخبرك . ويقال : أهببت النائم فهب النائم . أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي :

وعاذلةٍ هبَّتْ بليل تلومُني *** ولم يَعْتَمِرنِي قبل ذاك عَذُولُ

وقال أبو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة ، فذلك قولهم : " من بعثنا من مرقدنا " وقال ابن عباس وقتادة . وقال أهل المعاني : إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم . قال مجاهد : فقال لهم المؤمنون : " هذا ما وعد الرحمن " . قال قتادة : فقال لهم من هدى الله : " هذا ما وعد الرحمن " . وقال الفراء : فقالت لهم الملائكة : " هذا ما وعد الرحمن " . النحاس : وهذه الأقوال متفقة ؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل . وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " [ البينة : 7 ] وكذا الحديث : ( المؤمن عند الله خير من كل ما خلق ) . ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم : " هذا ما وعد الرحمن " . وقيل : إن الكفار لما قال بعضهم لبعض : " من بعثنا من مرقدنا " صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به ، ثم قالوا : " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " فكذبنا به ؛ أقروا حين لم ينفعهم الإقرار . وكان حفص يقف على " من مرقدنا " ثم يبتدئ فيقول : " هذا " . قال أبو بكر بن الأنباري : " من بعثنا من مرقدنا " وقف حسن ؛ ثم تبتدئ : " هذا ما وعد الرحمن " ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا " فتخفض هذا على الإتباع للمرقد ، وتبتدئ : " ما وعد الرحمن " على معنى بعثكم ما وعد الرحمن ، أي بعثكم وعد الرحمن . النحاس : التمام على " من مرقدنا " و " هذا " في موضع رفع بالابتداء وخبره " ما وعد الرحمن " . ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت ل " مرقدنا " فيكون التمام " من مرقدنا هذا " . " ما وعد الرحمن " في موضع رفع من ثلاث جهات . ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال : يكون بإضمار هذا . والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم . والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن .