هذه ضفة العذاب الأليم . والآن إلى ضفة النعيم والتكريم :
( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . .
وللمرة الأولى - فيما مر بنا من سور القرآن - تذكر الجنتان . والأظهر أنهما ضمن الجنة الكبيرة المعروفة ! ولكن اختصاصهما هنا بالذكر قد يكون لمرتبتهما . وسيأتي في سورة الواقعة أن أصحاب الجنة فريقان كبيران : هما السابقون المقربون . وأصحاب اليمين . ولكل منهما نعيم . فهنا كذلك نلمح أن هاتين الجنتين هما لفريق ذي مرتبة عالية . وقد يكون فريق السابقين المقربين المذكورين في سورة الواقعة . ثم نرى جنتين أخريين من دون هاتين . ونلمح أنهما لفريق يلي ذلك الفريق . وقد يكون هو فريق أصحاب اليمين .
قال ابن شَوْذب ، وعطاء الخراساني : نزلت هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } في أبي بكر الصديق .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا بَقيَّة ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطية بن قيس في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } : نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار ، لعلي أضل الله ، قال : تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا ، فقبل الله منه وأدخله الجنة .
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره ، يقول تعالى : ولمن خاف مقامه بين يدي الله ، عز وجل ، يوم القيامة ، { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات : 40 ] ، ولم يطغ ، ولا آثر الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدى فرائض الله ، واجتنب محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما قال البخاري ، رحمه الله .
حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي ، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن " .
وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود ، من حديث عبد العزيز ، به {[27909]} .
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه - قال حماد : ولا أعلمه إلا قد رفعه - في قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، وفي قوله : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ قال ] : {[27910]} جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين .
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري {[27911]} ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة ، عن عطاء بن يَسَار ، أخبرني أبو الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت : وإن زنى أو سرق ؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : " وإن رغم أنف أبي الدرداء " .
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة ، به {[27912]} ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل {[27913]} بن هشام ، عن إسماعيل ، عن الجُرَيري ، عن موسى ، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبي الدرداء ، به {[27914]} . وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء . وروي عنه أنه قال : إن من خاف مقام ربه لم يزْنِ ولم يسرق .
وهذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
«من » في قوله تعالى : { ولمن } يحتمل أن تقع على جميع المتصفين بالخوف الزاجر عن معاصي الله تعالى ، ويحتمل أن تقع لواحد منهم وبحسب هذا قال بعض الناس في هذه الآية : إن كل خائف له { جنتان } . وقال بعضهم : جميع الخائفين لهم { جنتان } . والمقام هو وقوف العبد بين يدي ربه يفسره : { يوم يقوم الناس لرب العالمين }{[10840]} [ المطففين : 6 ] وأضاف المقام إلى الله من حيث هو بين يديه . قال الثعلبي وقيل : { مقام ربه } قيامه على العبد ، بيانه : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }{[10841]} [ الرعد : 33 ] وحكى الزهراوي هذا المعنى عن مجاهد . وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف وتحريض على الخوف الذي هو أسرع المطايا إلى الله عز وجل . وقال قوم : أراد جنة واحدة ، وثنى على نحو قوله : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد }{[10842]} [ ق : 24 ] وقول الحجاج : يا غلام اضربا عنقه .
وقال أبو محمد : هذا ضعيف ، لأن معنى التثنية متوجه فلا وجه للفرار إلى هذه الشاذة ، ويؤيد التثنية قوله { ذواتا أفنان } وهي تثنية ذات على الأصل . لأن أصل ذات : ذوات .
انتقال من وصف جزاء المجرمين إلى ثواب المتقين . والجملة عطف على جملة { يعرف المجرمون بسيماهم } [ الرحمن : 41 ] إلى آخرها ، وهو أظهر لأن قوله في آخرها { يطوفون بينها وبين حميم آنٍ يفيد معنى أنهم فيها .
واللام في { لمن خاف } لام الملك ، أي يعطي من خاف ربه ويملك جنتين ، ولا شبهة في أن من خاف مقام ربه جنس الخائفين لا خائف معيّن فهو من صيغ العموم البدلي بمنزلة قولك : وللخائف مقام ربه . وعليه فيجيء النظر في تأويل تثنية { جنتان } فيجوز أن يكون المراد : جنسين من الجنات .
وقد ذكرت الجنات في القرآن بصيغة الجمع غير مرة وسيجيء بعد هذا قوله : { ومن دونهما جنتان } [ الرحمن : 62 ] فالمراد جنسان من الجنات .
ويجوز أن تكون التثنية مستعملة كناية عن التعدد ، وهو استعمال موجود في الكلام الفصيح وفي القرآن قال الله تعالى : { ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسِئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] ومنه قولهم : لبَّيْك وسعَديك ودواليك ، كقول القوّال{[408]} الطائي من شعر الحماسة :
فقولا لهذا المرء ذُو جاء ساعياً *** هَلمّ فإن المشرفيَّ الفرائض
أي فقولوا : يا قوممِ ، وتقدم عند قوله تعالى : { سنعذبهم مرتين } في سورة التوبة ( 101 ) . وإيثار صيغة التثنية هنا لمراعاة الفواصل السابقة واللاحقة فقد بنيت قرائن السورة عليها والقرينة ظاهرة وإليه يميل كلام الفراء ، وعلى هذا فجميع ما أجري بصيغة التثنية في شأن الجنتين فمراد به الجمع .
وقيل : أريد جنتان لكل متقّ تحفان بقصره في الجنة كما قال تعالى في صفة جنات الدنيا { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } [ الكهف : 32 ] الآية ، وقال : { لقد كان لسبإ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } [ سبأ : 15 ] فهما جنتان باعتبار يمنة القصر ويسرته والقصر فاصل بينهما .
والمقام : أصله محل القيام ومصدر ميمي للقيام وعلى الوجهين يستعمل مجازاً في الحالة والتلبس كقولك لمن تستجيره : هذا مقام العائذ بك ، ويطلق على الشأن والعظمة ، فإضافة { مقام } إلى { ربه } هنا إن كانت على اعتبار المقام للخائف فهو بمعنى الحال ، وإضافته إلى { ربه } تُشبِه إضافة المصدر إلى المفعول ، أي مقامه من ربه ، أي بين يديه .
وإن كانت على اعتبار المقام لله تعالى فهو بمعنى الشأن والعظمة . وإضافتُه كالإضافة إلى الفاعل ، ويحتمل الوجهين قوله تعالى : { ذلك لمن خاف مقامي } في سورة إبراهيم ( 14 ) وقولُه : { وأما من خاف مقام ربه } في سورة النازعات ( 40 ) .