الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ} (46)

فيه مسألتان :

قوله تعالى : " ولمن خاف مقام ربه جنتان "

الأولى- لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعد للأبرار . والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية . ف " مقام " مصدر بمعنى القيام . وقيل : خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه ، بيانه قوله تعالى : " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت{[14573]} " [ الرعد : 33 ] . وقال مجاهد وإبراهيم النخعي : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه .

الثانية- هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه : إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه . وقال به سفيان الثوري وأفتى به . وقال محمد بن علي الترمذي : جنة لخوفه من ربه ، وجنة لتركه شهوته . وقال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض . وقيل : المقام الموضع ، أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدم ، ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله ، وهو كالأجل في قوله : " فإذا جاء أجلهم{[14574]} " [ الأعراف : 34 ] وقوله في موضع آخر : " إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر{[14575]} " [ نوح : 4 ] .

قوله تعالى : " جنتان " أي لمن خاف جنتان على حدة ، فلكل خائف جنتان . وقيل : جنتان لجميع الخائفين ، والأول أظهر . وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور{[14576]} وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة ، قرارها ثابت وشجرها ثابت " ذكره المهدوي والثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة . وقيل : إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها . وقيل : إحدى الجنتين منزل والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا . وقيل : إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه . وقيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها . وقال مقاتل : هما جنة عدن وجنة النعيم . وقال الفراء : إنما هي جنة واحدة ، فثنى لرؤوس الآي . وأنكر القتبي هذا وقال : لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون إنما قال تسعة عشر لمراعاة رؤوس الآي . وأيضا قال : " ذواتا أفنان " . وقال أبو جعفر النحاس : قال الفراء قد تكون جنة فتثنى في الشعر ، وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل ، يقول الله عز وجل : " جنتان " ويصفهما بقوله : " فيهما " فيدع الظاهر ويقول : يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر ! وقيل : إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين برزت ، قاله عطاء وابن شوذب . وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبنا على ظمأ فأعجبه ، فسأله عنه فأخبر أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : " رحمك الله لقد أنزلت فيك آية " وتلا عليه هذه الآية .


[14573]:راجع جـ 9 ص 322.
[14574]:راجع جـ 7 ص 202.
[14575]:راجع جـ 18 ص 299.
[14576]:في ز، ل: "نور على نور".